حتى الديكتاتور نفسه إن سألته عن طبيعة سياسته وأدائه في الحكم سينفي عن كونه ديكتاتوراً لما للمفردة من إيحاءات سيئة غير محببة للنفس، ويسعى للظهور بأنه يستشير المقربين اليه، لأن فكرته ونظريته لم تعد مجرد رؤية قابلة للتعديل او التقويم، إنما هي الأول وهي الآخر...

تفاجأ صدام بمن يتحدث عن "الحصانة من المجتمع" في المؤتمر القطري المنعقد أواسط الثمانينات لانتخاب أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث في العراق، فقد وشى أحد الحاضرين بمرشح للقيادة بأنه يتقرّب الى المتدينين وأهل المساجد –حسب تعبيره- فكان رد "الرفيق" للدفاع عن نفسه في هذا الموقف الجهنمي بأن "غايتي ايجاد حصانة اجتماعية لعدم التأثر مما موجود في المجتمع من تقاليد وطقوس والتزامات دينية"، فكان الرد المنفعل والغاضب من صدام، وقد رفع كتاباً قريباً منه كان على الطاولة، ربما يكون أحد المصادر الفكرية لحزب البعث بأن "يكفينا هذا الكتاب ولا حاجة لنا بغيره، ولن نكون بحاجة الى حصانة وخوف من أحد".

بهذه الإشارات والمواقف كان صدام يغرز في عقول المحيطين به من رجال الحزب والدولة عبادة الايدولوجيا التي يجب ان تكون المصدر والمنهج لتفكيرهم وسلوكهم وعموم ثقافتهم في الحياة، بدعوى تفوقها على المصادر الأخرى لتحقيق حياة أفضل.

ومن قبل، وتحديداً مع مراحل بروزه في المسرح السياسي، أوهم الجميع بأن شخصيته فكرية –ثقافية قبل ان تكون سياسية، وأنه مناضل وثوري متطلع الى تحقيق اهداف الجماهير، وتأسيس بلد قوي، وشعارات براقة كبيرة كان يطلقها في احاديثه وخطاباته التي تحولت الى مقالات وكتب توزع على المتعلمين والمثقفين لصناعة شريحة واسعة في المجتمع تؤمن؛ ليس بضرورة الانبعاث الاقتصادي والسياسي والعلمي الذي تقمصه "حزب البعث" فقط، وإنما يكون هذا الانبعاث والطموح التقدمي، العقيدة والغاية النهائية في الحياة، غاضين النظر عن وسيلة الوصول الى هذه الغاية، وكما قال هو في نفس الاجتماع القطري: "لا يهمني اذا ما كانت صفات هذا حميدة، او صفات ذاك ذميمة بقدر ما يهمني الولاء للحزب ومبادئه"، بمعنى أن لحزب البعث معايير خاصة به يزن فيها الأخلاق والعقيدة والقيم، وعلى الجميع الايمان بها، لأن من خلاله فقط يمكن ان يعيش الشعب العراقي الرخاء والاستقرار. ومنه كانت حملة الانتماء القسري الى حزب البعث لجميع افراد الشعب العراقي، حتى طلبة المدارس، وصلتهم استمارات للعضوية في الحزب، وجاء في فقرة منها: "ومن يثبت انتماءه الى حزب سياسي آخر يعرض نفسه لعقوبة الاعدام"!

حتى مغامراته الى ما وراء الحدود صوّرها للناس على أنها استهداف للعراق التقدمي والناهض بفضل مبادئ حزب البعث، لذا أطلق على كل من يقتل في ظل قيادته فهو "شهيد".

و رغم السقوط المريع لنظام حزب البعث في العراق، والتجربة الفاشلة له في قيادة الشعب والبلد طيلة حوالي اربعين سنة، لم يكن أحد يصدق أن ينهار نظام حزب البعث في سوريا ايضاً، وهذه -بالحقيقة- تُعد اشكالية فكرية لدى البعض غذتها تجاذبات سياسية في المنطقة، بيد أن حقائق التاريخ أكبر بكثير من هذه التجاذبات ذات العمر القصير والمرتبطة بمصالح سياسية واقتصادية ضيقة ظلمت الملايين من البشر. 

لا أجدني بحاجة الى الغوص في التاريخ السياسي ونحن نبحث عن العِبر من التحولات الجذرية في بلادنا للحؤول دون تكرار أخطاء الماضي، فقد تمكن ادولف هتلر من زجّ الشعب الالماني برجاله ونسائه واطفاله الى محرقة الحرب العالمية الثانية عندما حول افكار الحزب القومي الاشتراكي "النازي" الذي فاز في انتخابات برلمانية وديمقراطية، الى صنم ايديولوجي كبير ينطق باسمه، هاتفاً بقوة وعظمة المانيا في اوروبا والعالم، ومبشراً بمستقبل زاهر للجميع.

إن طغيان صدام او الأسد لم يكن بشخصهما، فهما لم يكونا مثل فرعون او نمرود، يُحيي ويميت، او يطلب من الناس السجود له، إنما طغوا بالفكرة البسيطة في ذهن مجموعة من الشباب المتطلع والمتحمّس في لحظة تاريخية، ربما لم يتوقعوا هم انفسهم ان يتحولوا الى أداة لقتل الملايين ودمار هائل لا مثيل له عندما تلتقي افكارهم مع مصالح لقوى كبيرة في العالم، كما حصل لمجموعة من الطلاب السوريين في فرنسا بأن يأسسوا حزباً سياسياً يملأ الفراغ الفكري والثقافي في اربعينات القرن الماضي بفعل التركة الاستعمارية الثقيلة على البلاد العربية، وأن يكونوا أبطال التحرير والاستقلال والتقدم من خلال حالة "انبعاث" او البعث الجديد في روح الأمة لمحاربة الجهل والتخلف والتبعية، كما هي الشعارات المرفوعة والوعود المعسولة، الامر الذي لاقى رواجاً في بعض الاوساط آنذاك. 

الفكرة والإصرار على الحكم 

ظهر في الساحة الاسلامية خلال القرن الماضي العديد من المثقفين والمفكرين مع رؤى جميلة في التغيير والبناء الانساني والحضاري، مع تشخيص دقيق في كثير من الاحيان لاسباب الواقع الفاسد الذي تعيشه الشعوب، وكانت افكارهم ونظرياتهم تخرج الى الساحة في محاضرات او مؤلفات او مقالات، لكنها لم تتحول الى تيار سياسي متسلّق يرنو الى قمة الحكم، فقد نظر وكتب مالك بن نبي من الجزائر، وعلي شريعتي من ايران، واقبال لاهوري من باكستان، المرجع الديني السيد محمد الشيرازي من العراق، وفي مصر ظهر مفكرون كُثر من التيارين الاسلامي والعلماني، رحلوا عن دار الدنيا بهدوء تاركين ورائهم عناوين لامعة من المؤلفات ماتزال تجذب اهتمام ابناء الجيل الجديد رغم انها تعود الى سنوات طويلة ماضية لما يجدون في بعضها من مصداقية وتطابق مع الواقع الحاضر، وربما يتحسرون لو كان لها نصيباً في إدارة شؤون الناس.

إن ما يدفع بعض اصحاب الافكار للتسلّط، شعوراً عارماً بالخواء والسطحية والاغتراب الاجتماعي –إن صح التعبير- بسبب ابتعاد هذه الافكار عن هوية المجتمع وانتماءه وتقاليده وثقافته بشكل عام، فيجدون أن لامناص من التسيّد على الناس جميعاً، وحتى على سائر التنظيمات السياسية المتطلعة للمشاركة في الحكم ضمن التجربة الديمقراطية، ومن أبرز النماذج الحيّة وماتت مؤخراً؛ حزب البعث العربي الاشتراكي الذي فرض نفسه وسط مجتمعين معروفين بالمحافظة على جذورهما الدينية والتقاليد الاجتماعية، و حاول ان يقدم ثقافة بديلة عن الثقافة الإسلامية من خلال السعي الى علمنة الحكم مع الاحتفاظ بالظاهر الديني في بعض مؤسسات الدولة بغية طمأنة الخواطر. 

وهذا ما يفسّر صعود هذا الحزب الى الحكم من خلال الانقلابات العسكرية وتسلّق ضباط في الجيش الى قمة السلطة لتكون للصمنية الاديولوجية تجسيم حيّ يتفاعل معه الناس ليل نهار، ويصفقون له ويهتفون بحياته، ولا أخوض في تفاصيل العلاقة الشاذة وغير الطبيعية بين الدكتاتور المؤدلج، والجماهير، وكيف أنها انتجت حالات نفسية شاذّة ايضاً، مثل؛ النفاق للتزلّف، والجُبن هرباً من السجن والاعدام، والاحتقار الذاتي لتبرير وجود الأقوى، إنما المهم لدينا تسليط الضوء على زاوية مظلمة في النفس البشرية تدفع دائماً لفرض ما يجول في الذهن من افكار على الآخرين، والعبرة ليس فقط في الاحداث الكبرى في عواصم مثل دمشق وقبلها بغداد، بل ان نتوقع تكرار مثل هكذا حوادث في مؤسسات ودوائر عمل مختلفة، فالصنم هنا ربما لا يكون بحجم رئيس الجمهورية، وإنما في مستوى مدير، او رئيس مجلس ادارة، او امين عام وما الى ذلك من المسمّيات، بحيث نسمع من هذا او ذاك الحديث المسهب عن الصمنية الاديولوجية والديكتاتورية فيما هم يمارسونها في نطاق أضيق من الحكم والسلطة، وربما تكون هي قاعدة تتعكّز عليها الديكتاتورية السياسية.

الفكرة وسيلة أم هدف؟

حتى الديكتاتور نفسه إن سألته عن طبيعة سياسته وأدائه في الحكم سينفي عن كونه ديكتاتوراً لما للمفردة من إيحاءات سيئة غير محببة للنفس، ويسعى للظهور بأنه يستشير المقربين اليه، لأن فكرته ونظريته لم تعد مجرد رؤية قابلة للتعديل او التقويم، إنما هي الأول وهي الآخر، والجميع يحومون في دائرتها الكبيرة مثل طائر في قفص كبير. 

فالديمقراطية –مثلاً- تعد فكرة مقترحة من علماء الغرب لنمط حكم رأوه انه يخلصهم من هيمنة الكنيسة أو القصر، ثم تحولت الى عقيدة اندمجت مع حياة الناس في معظم دول العالم، بينما هذه الفكرة يفترض انها تضمن للبشرية السعادة الحقيقية –إن كانت أهلاً لهذا طبعاً- ولكننا نرى أن هذه الديمقراطية تحولت في بعض البلدان الى سلّم لصعود الفاسدين والمستبدين. 

ثمة أهدافاً سامية يرنو اليه الانسان مثل الحرية والعدالة والكرامة الانسانية هي التي يجب ان تكون معياراً لصحة او سقم هذه الفكرة او تلك، لا أن تتشرنق الفكرة حول نفسها وحول صاحبها وتتحول الى دين جديد يكتسي القدسية، ولا يحق لأحد مخالفته تحت طائلة المحاسبة والإدانة الى مرتبة التخوين والتجريم ثم الموت تحت لافتة الديمقراطية، كما حصل مع الشيخ فضل الله النوري عام 1906 عندما بزغ اول دستور في الشرق الاوسط من دولة ايران القاجارية آنذاك، وعرفت بثورة الدستور، أو "المشروطة" حسب المصطلح الفارسي لصياغة نظام حكم مشروط برأي الشعب ويضع حداً لاستبداد الملك، فكان اقتراح الشيخ النوري أن يكون التغيير السياسي بعنوان "مشروعة"، أي اكتسابها الشرعية الدينية وليس فقط الشرعية الديمقراطية، مما أثار غضب البعض ممن أرادوا حرق المراحل وإنشاء النظام الديمقراطي في ايران بدعم من بريطانيا التي كانت حينها القوة العظمى في العالم.

فكان جزاء هذا العالم، الاعتقال بأبشع الطرق ثم الحكم عليه بالاعدام شنقاً أمام جمهور غفير من أهالي طهران بتهمة معاداة الديمقراطية ومناصرة الديكتاتورية! علماً أن هذه الثورة الدستورية –الديمقراطية لم يكتب لها النجاح عندما تعرض مبنى أول برلمان في طهران للقصف المدفعي، ثم التدخل العسكري الروسي لتذهب كل أحلام وآمال الشعب الايراني بظهور نظام برلماني حقيقي يمثله أدراج الرياح، ويتحول مجلس النواب فيما بعد، في عهد البهلوي الى أداة لتكريس الديكتاتورية، وقمع المعارضة، ومعاداة القيم التي يؤمن بها هذا الشعب.

اضف تعليق