يبقى المحو من خصائص فكر وسلوك سياسينا الذين يجسدونه بمضامين تكتظ بها الوسائل الاعلامية التي يمتلكونها او التي تميل لهم، بحيث لا نجد أثرا من ايجابيات السابق في طروحات الحالي، لكن الأثر، السلبي منه والايجابي راسخ في ذاكرة الناس، وهو ما نتلمسه في أحاديثهم اليومية عن ذكريات مروا بها...
أكره كلمة (المحو) التي تعني في مفهومنا الدارج الشطب والالغاء، ولا أكن المشاعر نفسها لمفاهيمها المبدعة لدى المفسرين الاسلاميين، من حيث ان الشيء باق وأثره زائل، وهكذا الأمر بالنسبة للفلاسفة والنقاد الغربيين كدريدا الذي أعطى للمحو مفهوما ميتافيزيقيا في مؤلفه (في علم الكتابة) الذي سبقه فيها الطبطبائي في كتابه (الميزان في تفسير القرآن).
موضوع المحو معقد وشائك، ولا أريد أن أُتعب أذهانكم بهكذا مواضيع، كل ما أريد الحديث عنه هو معنى المحو سياسيا في الفكر والممارسة، فالمحو السياسي لدينا يعنى إلغاء وشطب الآخر نهائيا معنويا وماديا، فضلا عن محاولة محو أثره، وياحبذا لو كان من الذاكرة الجمعية أيضا.
وتحيلنا هيمنة سلوك المحو لدى السياسيين العراقيين الى صفة الموضوعية، بمعنى التجرد من الأهواء والرغبات والنزوات في اطلاق الأحكام على السابقين لهم، في تجاربنا السياسية لم يتحل فيها اللاحق على السابق بالموضوعية مطلقا، بحيث يشير فيها الى ايجابيات السابق وسلبياته، ما حققه وما أخفق فيه.
بالتأكيد ليس هناك نظاما سياسيا مثاليا، فكل تجربة سياسية لها ما لها وعليها ما عليها، ذلك ان العمل عموما بضمنه السياسي لابد أن يقع القائمون به بأخطاء، طبعا من الأخطاء ما هو كارثي، ولكم أن تحسبوا الكوارث التي مررنا بها.
والأمثلة: لقد محت ثورة (14 / تموز / 1958) التي قادها الزعيمان عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ضد النظام الملكي جميع المنجزات التي حققها ذلك النظام وأبرزت سلبياته، مع انه المؤسس للدولة العراقية الحديثة في عالم خرج للتو من حرب عالمية طاحنة.
وعندما استلم البعثيون السلطة في العراق العام 1968 بقيادة أحمد حسن البكر، شوهوا صورة الزعيم واتهموه بشتى أنواع التهم، وان ثورتهم جاءت لتصحيح المسار السياسي، وان الزعيم دمر العراق، ونال من مكانته القومية ودوره الاقليمي والدولي، وان الثورة البيضاء بحسب وصفهم جاءت لوقف سفك الدماء، وتحقيق الغد المشرق الذي يتطلع له العراقيون، واذا بالدماء تجري أنهارا وأضعاف ما كانت عليه.
ولم يختلف الحال عند التغيير السياسي في العام 2003 وسقوط نظام البعث، فمحى النظام الجديد مرحلة طويلة من العمل السياسي، مركزا على أخطائها ومتجنبا انجازاتها، بمختلف وجوه تلك التجربة سواء على المستوى السياسي او الخدمي، ويبدو ان المحو في الفكر السياسي العراقي راسخ وسيستمر لكل التجارب القادمة، ذلك لأننا لم نتمكن من الارتقاء بتفكيرنا الى المستوى الذي نتجرد فيه من الأحقاد التي تدفعنا الى التعامل مع ماضي السابقين.
يبقى المحو من خصائص فكر وسلوك سياسينا الذين يجسدونه بمضامين تكتظ بها الوسائل الاعلامية التي يمتلكونها او التي تميل لهم، بحيث لا نجد أثرا من ايجابيات السابق في طروحات الحالي، لكن الأثر، السلبي منه والايجابي راسخ في ذاكرة الناس، وهو ما نتلمسه في أحاديثهم اليومية عن ذكريات مروا بها، فيشيدون بهذا ويذمون ذاك، ويعلون من هذا الفعل ويستنكرون آخر. لا شيء بمقدوره محو ذاكرة الناس، وان كانوا لا يستطيعون الحديث عنه بصوت عال، وهذا ما أذكره أيام النظام السابق يوم تحاشى الناس الحديث عن سلبياته حتى داخل عوائلهم.
سياسيونا يريدون الخلود لأنفسهم فقط، ويجهدون في العمل من أجله، وهو تطرف من نوع آخر، لكنهم بذلك انما يؤسسون لمحو أنفسهم بعد غيابهم عن الواجهة، أعجبني عدم محو قصر الملك فاروق وأسماء رؤساء مصر في محطات المترو، وعدم اتلاف مكياج الملكة وسرير نومها في قصر الشاه بطهران.
لكي تكون مقنعا ومؤثرا لابد أن تكون موضوعيا، ذلك ان الموضوعية تكسبك قدرا كبيرا من الحكمة، والحكمة تقود الى نجاح مشروعك، وان الذين يرون أنفسهم مثاليين ومنزهين من الأخطاء، فتيقن ان تجربتهم ستنتهي الى الفشل، كما انتهت تجارب من سبقهم.
اضف تعليق