إن القول بأن المتدين يفتقر إلى حسّ التشكيك هو قول مجاف للحقيقة بملاحظة أن الطريق إلى اليقين الديني يمرّ عبر منهج الشك في كثير من الأديان، ولاسيما الدين الإسلامي الذي يشترط الاجتهاد في تحصيل العقيدة أو أحد أصولها، ويحظر على المسلمين الاعتقاد بها اتباعا أو تقليدا...

بين الحين والآخر تطالعنا دراسات واستطلاعات تدّعي الالتزام بالمنهجية العلمية الرصينة لكن التأمل العميق في تفاصيلها الدقيقة يكشف عن جوهرها الحقيقي المشابه في أحيان كثيرة للإعلانات التجارية في أحسن الفروض، من ذلك دراسات واستطلاعات كثيرة مبثوثة على صفحات الانترنت، وتفيد بأن اللا دينيين هم الأذكى في معدلات الذكاء قياسا بالمتدينين. ولا تكتفي تلك الروايات بهذا الحدّ من التقييم، بل تجمع إلى جانبه تعليلا (منطقيا) أو أكثر قصد ترسيخ القناعة في أذهان متلقي المعلومة بأن النتيجة التي انتهت إليها هذه الدراسة أو ذلك الاستطلاع يمثّل بديهية لا تجوز مخالفتها، فالملاحدة يمتازون بصفة التشكيك، وهذا ما يجعلهم أكثر ذكاءً، وهم من جهة ثانية أقرب إلى التحليل المنطقي، وهي الخصلة التي يفتقر إليها المتدين الذي يتّسم بالاعتماد على الحدس أكثر من اعتماده على المنطق، وبما أن المتدينين هم الأقل تحصيلا دراسيا فهم أوطأ في سلّم الذكاء من غير المتدينين، وبما أن الدين هو غريزة، وأن الملحدين يرتفعون على غرائزهم تجدهم أكثر حكمة من سواهم، وهكذا...

ويستأنس أحد هؤلاء (الأكاديميين)، وهو الدكتور ديمتري (فان دير ليندن) أستاذ علم النفس في جامعة (إيراسموس روتردام) الهولندية لدعم فرضية تفوّق غير المؤمن على المؤمن بمقولة إغريقية قديمة مفادها أن الأحمق يميل للتديّن بخلاف الحكيم المشكك، متناسيا أن القول بأن المرأة ليس لها روح تُنسب إلى قدماء الاغريق أيضا! 

وعلى الرغم من أن الحجج آنفة الذكر يمكن تصنيفها بلا تردد بوصفها مغالطات مؤسسة على تعميم غير علمي، وأنها تنافي الحقيقة التي لا يختلف عليها (عاقلان)، ومضمونها أن العوامل المشكلة للذكاء تتصل جذورها بالمورثات الجينية، وتستقي روافدها من البيئة الاجتماعية أي التربية، والتعليم، والاقتصاد، والثقافة السائدة وغيرها، فضلا عن التجربة الشخصية للفرد قيد الدراسة أو الاستطلاع، لكنّ تلك الحجج أو المغالطات -بكلمة أدق- وجدت طريقها سهلا إلى النشر، والترويج، والتصديق! 

ولعلّ من أسرار انتشارها السريع هذا وجود أنصار لها من مالكي وسائل الإعلام، ومؤسساتها الكبرى على مستوى الكوكب مثل (روبرت مردوخ)، و(مايكل بلومبرغ)، أو وجود صحفيين، يحظون بشهرة جماهيرية هائلة، ويعملون لحساب تلك المؤسسات وشبيهاتها، ويثابرون في إيصال رسائلهم اللادينية بأسلوب هزلي مُتقَن مثل الصحفية الساخرة (إلين ديجينيرس)، والممثل الكوميدي (جون ستيوارت)، فضلا عن دعاة إلحاد ذائعي الصيت جمعوا بين الكتابة والصحافة، ومنهم (كرستوفر هيتشينز)، وهو كاتب ومعلق سياسي، من أبرز مؤلفاته، (كتاب الإله ليس عظيما)، وعالم الأحياء (رتشارد دوكنز)، صاحب كتاب: (وهم الإله)، وطبيب الأعصاب (سام هارس) مؤلف كتاب: (نهاية الإيمان). 

وعليه يمكن التأكيد هنا بأن قوة الفكرة التي تزعم بأن الملحدين هم الأذكى من مخالفيهم في الاعتقاد تستمد صلابتها، ونجاحها، وشيوعها من أجندة إعلامية صاخبة، وهذه الأجندة هي المسؤولة في المقام الأول عن صيرورة تلك الفكرة بهيأة صورة نمطية تختزل الذكاء بنظم الاعتقادات، ومن ثم تحويلها إلى مقولات شعبية راسخة تغوص في وجدان جمهورها المستهدف إلى درجة يستعصي معها انتقادها، أو حتى تصوّر إخضاعها للفحص والنقاش، وبقدر ما يتعلق الامر بعالمنا العربي نستطيع أن نحصي أكثر من مقولة رائجة في هذا الصدد، من ذلك اعتقاد كثير منّا بأن السبب في تخلّف العرب وتقدّم الغرب يكمن في حضور الدين لدينا، وغيابه عنهم، فضلا عن وصف المتدين غالبا بأنه (درويش أو من أهل الله)، وهي نعوت تُحيل إلى عوالم السذاجة، وضعف العقل، وما يجري في هذا المجرى.

إن القول بأن المتدين يفتقر إلى حسّ التشكيك هو قول مجاف للحقيقة بملاحظة أن الطريق إلى اليقين الديني يمرّ عبر منهج الشك في كثير من الأديان، ولاسيما الدين الإسلامي الذي يشترط الاجتهاد في تحصيل العقيدة أو أحد أصولها، ويحظر على المسلمين الاعتقاد بها اتباعا أو تقليدا.

كما أن الواقع في مدرستي الإيمان والألحاد وفلسفتيهما يُظهر عبر العصور وجود علماء (ماديين) في كلتا المدرستين على السواء، فضلا عن كبار الفلاسفة! وفي ما يتعلق باختبارات الذكاء، وهي (القوانين) التي يجعل منها الملاحدة عادة حجر الزاوية في إصدار أحكام الذكاء والغباء على البشر فقد أبان كثيرٌ منها في دول شتى تفوّق المتدينين على غير المتدينين هذه المرة! على أن المنطق العلمي الرصين حقا يُفترض به أن لا يركن لنتائج تلك الاختبارات إذا لم يرفضها جملة واحدة. 

وذلك لاعتبارات عديدة يأتي في مقدمتها هندسة تلك الاختبارات وما يمكن أن تُفرزه من تحيّز مبرمج، وتعميم جائر، يُلقي في روع الناس أن الأوربيين أذكى من سواهم تارة، أو أن الكوريين هم الأذكى تارة أخرى، ناهيك بالحكم على الأفارقة بكونهم الأدنى في معدلات الذكاء من الأوربيين، والآسيويين، وذلك العبث كله مرده بصورة رئيسية إلى اعتماد آلية الاستقراء الناقص! ومن الجدير هنا فعلا الاستشهاد بعبارة ذهبية تُعزى إلى فيلسوف عصره (كارل بوبر)، ومضمونها أن وجود آلاف البجع الأبيض لا يستدعي تعميم اللون الأبيض على الجميع، وذلك لاحتمال وجود بجعة غير بيضاء لم يُنتبه إليها، أو لم يُفتش عنها جيدًا ...

اضف تعليق