الفوضى التي نعيش في ظلها اليوم في بعض مرافق الحياة أيضا تشكل خطرا علينا، وهي يمكن أن تهدد حياتنا بما هو أسوأ إنْ لم نضع لها الحلول التي تكافحها وتحد منها أو تقضي عليها، فلا ينبغي السكوت على هذه الفوضى، ولا يجوز التغاضي عنها، خصوصا من قبل القادرين على تغييرها...
بشبّه علماء السياسة وحتى علماء الاجتماع الدولة بالكائن الحي، فهي تولد وتترعرع وتنمو وتكبر وتشيخ ثم تنقرض، وشمل هذا القول حتى الحضارات المهمة، وغالبا ما تكون الفوضى من أسباب الانقراض، ولكن قد تشكل الفوضى علامة فارقة في حياة بعض الناس.
تمر في حياة كل إنسان غرائب لا يمكن أن يمحوها النسيان، فتبقى عالقة في الذاكرة، لا يستطيع نسيانها، ومنها ذلك الشخص الذي شاءت الظروف أن تجمعني به في العمل، فهو إنسان غريب حقًا في تصرفاته، لدرجة أن كل من عاش معه، أو عمل معه، أو احتكَّ به لأي سبب كان، أو رآه وتكلم معه، سوف يشعر باختلاف هذا الكائن عن البشر جميعا.
لماذا هذا الاختلاف، الجواب ببساطة، ليس الشكل، ولا المظهر الخارجي لذلك الإنسان، فها لا يختلف عن بقية البشر من حيث الشكل الخارجي، لكن ما يجعله مختلف بشكل كبير الفوضى، أو كونه فوضويا في جميع تصرفاته وسلوكياته وتعاملاته المختلفة، فمثلا إذا ضحك سيكون صوته عاليا بحيث ينتبه له الجميع، وإذا تكلم صوته يطغي على الجميع، كلمات متلاحقة وحنجرة مستفزة، وكلام غير مترابط بالمطلق.
فيكون محل استهجان الآخرين بسبب حالة الفوضى التي ترافق وجوده وحضره وكلامه وسلوكه، فيجعل المكان الذي يتواجد فيه فوضويا مرتبكا وغير مريح، فيبدأ الناس بمغادرة المكان، وإذا كانوا مجبرين على البقاء، فإنهم يسايرون هذا الفوضوي بطريقة أو أخرى، وهذا يدل لنا على أن الإنسان إذا كان فوضويا فلا فائدة منه، ولا رغبة للتعاون أو التفاعل معه. لذا نقول من الغريب حقا أن تتحول الفوضى إلى نظام يعتاد عليه الإنسان في حياته، هذا ما بدأتُ اشعر به بالفعل في حياتنا العراقية، فهل هناك شيء غريب في هذا الأمر؟
الحقوق مكفولة والواجبات محددة
يقول بعض من سألتهم هذا السؤال هل يمكن للفوضى أن تشكل نظاما لحياة الإنسان، وهل يمكن للفوضى أن تتحول إلى نمط أو أسلوب للحياة وليس نظاما لها، وهناك فرق كبير بين الأسلوب وبين النظام، فالأسلوب قد يكون خاطئا أو ليس صحيحا، فتكون حياة الانسان في هذه الحالة رديئة او سيئة لأن الأسلوب الذي يدير به الانسان حياته ليس صحيحا.
أما النظام فهو كما معروف عنه مفيد للناس يجعل حياتهم منظمة مرتبة وتجري بين الناس بشكل مريح وصحيح، فأينما وُجِد النظام تجد النجاح حاضرا، لماذا لان جميع الأدوار معروفة والحقوق مكفولة والواجبات محددة ومطلوبة ولا يجوز التملص منها، على العكس من الأسلوب الخاطئ في الحياة، فهو مؤذٍ في جميع الأحوال.
لهذا يُقال هناك بون شاسع بن الأسلوب والنظام، ولكن هل يمكن أن يتحول النظام إلى خطر على الناس، الجواب عندما يتجاوز الحدود المسموح بها، وكل شيء يزداد عن حده ينقلب ضده كما يقول المثل الشعبي المعروف، مثال ذلك النظام السياسي عندما يتحول إلى الطغيان والاستبداد والحدّية المبالَغ بها، فإن النظام هنا سيكون وبالا على الناس وليس نظاما.
ومن المدهش حقا أن نقرأ لأحد المبدعين الغربيين المهمين وهو الفرنسي بول فاليري تلك العبارة المدهشة ذائعة الصيت التي يقول فيها: (خطران يتهدّدان العالم الفوضى والنظام)، وهذا يعني إن الفوضى ليست هي الوحيدة التي تهدد حياة الإنسان أو مجتمع ما أو حتى العالم بأسره، وإنما النظام نفسه من الممكن أن يتحول إلى حالة أو ظاهرة تهدد الجميع، ولكن متى وكيف يحدث ذلك؟
تخفيف حدّة النظام
في العراق عاش العراقيون في مراحل معينة نوعا من النظام أدى إلى تحويل حياتهم إلى جحيم، ونعني بذلك الأنظمة العسكرية الانقلابية التي حكمته لعقود متتابعة، فهذه الأنظمة فعّلت النظام إلى أقصاه واستخدمته لصالحها بطرائق دمرت حياة الناس في العراق، وجعلتهم يعيشون أقسى الأزمنة في ظل الحروب العبثية والحصارات المدمرة.
وهذا ما يؤكد خطر النظام السياسي بالفعل عندما يصبح مستبدًّا، ليس في العراق وحده وإنما في كل مكان يتم فيه تحويل النظيم من أهدافه العظيمة إلى رادع مخيف يدمر حياة البشر وينتهك حقوقهم ويستبيح أحلامهم في حياة هادئة.
الفوضى التي نعيش في ظلها اليوم في بعض مرافق الحياة أيضا تشكل خطرا علينا، وهي يمكن أن تهدد حياتنا بما هو أسوأ إنْ لم نضع لها الحلول التي تكافحها وتحد منها أو تقضي عليها، فلا ينبغي السكوت على هذه الفوضى، ولا يجوز التغاضي عنها، خصوصا من قبل القادرين على تغييرها، وهم في الغالب أصحاب القرار.
لكن هذا القول ولصق المعالجة بالمسؤولين لا يمكن أن يعفي الفرد العراقي من مسؤوليته، فهو جزء من أسباب هذه الفوضى وعليه أن يعالج هذه القضية ويكف عن المشاركة في صنعها، نعم هو يشارك في صنع الفوضى إذا تخلى عن مسؤوليته في مكافحتها، وهذا يعني بأن العراقيين كلهم بلا استثناء، مشمولين بمكافحة الفوضى وتقليل حدَّة النظام، لضمان بناء دولتهم المتوازنة.
اضف تعليق