ان هناك سببين رئيسيين لهذه الاختيارات، أحدهما يتمثل بأنهم سيشكلون درعا واقيا لترامب ضد الضربات المحتملة التي قد يوجهها أعداؤه له نظرا لما يتمتعون به من قدرة على الحوار والإقناع، والسبب الآخر يكمن في أن قلة خبرة هؤلاء الوزراء أو ضعف كفاءتهم في إدارة ما أوكله لهم ترامب من مهام ووظائف سيُبقيهم تحت سيطرته...
ليس من التعميم في شيء القول بأن الحضارة القائمة على سيادة المال هي حضارة العصر الحديث، بل إن سيادة المال في الواقع تمتد جذورها إلى أعماق تاريخية سحيقة، وربما ترجع لحظة سطوتها الأولى إلى ذلك اليوم المجهول الذي احتال الأغنياء الأقوياء به على الفقراء والضعفاء فاخترعوا لهم أولا ثروة وهمية سمّوها "ثروة النقود"، ثم احتكروا في ما بعد صناعة سكّ وطباعة تلك الثروة...
إذن لم يكن خارجا عن المألوف دخول الأغنياء عالم السياسة علنا أو من وراء ستار، بل إن العكس هو الصحيح في دول مثل أمريكا، وتكفينا إطلالة سريعة على تاريخ هذه الدولة تحديدا لنخرج بقائمة لأسماء الرؤساء الأكثر ثراءً في العالم كجورج واشنطن، وتوماس جفرسن، وجون كندي، ودونالد ترامب.
تتداول الصحافة خبر يقول إن الملياردير (جورج سوروس) هو الحاكم الفعلي للولايات المتحدة الأمريكية في فترات الديمقراطيين الأخيرة لاسيما في عهدي باراك أوباما وجو بايدن، وخبرٌ كهذا قابل للتصديق بملاحظة أن دخول الشركات الأمريكية على الخط السياسي يمثل ظاهرة بارزة في عمل الحزبين الرئيسيين تمتد من أقصى اليمين المحافظ إلى أقصى اليسار الليبرالي، وبحسب المؤرخ الأمريكي (غابرليل كولكو) فقد استخدم الأغنياء على مدى عقود طويلة أساليب متنوعة لرشوة المسؤولين من أجل دعم كارتلاتهم الاقتصادية. واستطاعت الشركات التجارية الكبرى مع مرور الوقت التسلل للنظام النقابي، ومن ثم الهيمنة عليه هيمنة تامة، ولكن الطبيعة العامة لدعم الثري للسياسي الأمريكي في الفترات الماضية كانت محكومة بسرية بالغة، أو إنها كانت تجري من وراء الكواليس في أقل تقدير.
لكن اللافت في الانتخابات الأمريكية الأخيرة أن تأثير الأغنياء أخذ منحى علنيا مكشوفا تماما، تجسد ذلك بصورة جلية في قرار الملياردير إيلون ماسك بدعم حملات الرئيس دونالد ترامب بما معدله مليون دولارا يوميا، وهو الأمر الذي شكّل سابقة غير معهودة في تاريخ العلاقات بين السياسيين والتجّار، ولربما كان بالإمكان أن تؤدي به هذه التبرعات السخية المعلنة إلى غياهب السجن لولا فوز ترامب على حدّ المستفاد من تصريحات ماسك هو نفسه، ماسك الذي بدأ يتصرّف كما لو كان هو الرجل الثاني في حكم الولايات المتحدة الامريكية، وذلك حتى قبل أن يبدأ الرجل الأول وهو دونالد ترامب بتسلّم زمام حكم بلاده رسميا، وبحسب بعض المصادر الإعلامية فإن ماسك قام بإيصال رسائل سرا لبعض البلدان التي تربطها علاقة متوترة مع واشنطن، كما أن تصريحات له أخذت تنحو منحى التدخل في سياسات بعض الدول الحليفة لأمريكا، وقريب من هذا الذي ذكرناه للتو ما جرى من شد وجذب بين ماسك والحكومة الاسترالية على خلفية قرار الأستراليين حظر استعمال الإنترنت على الشباب دون سن السبعة عشرة سنة.
وفي مقال كتبه إيلون ماسك مؤخرا، وكشف عن مدى ولعه بالتحكم والسيطرة صرّح ماسك باعتزامه حلّ عدد من الهيئات الفدرالية الأمريكية مع ما تشتمل عليه هذه العملية من طرد من أعداد ضخمة من الموظفين، منهيا كلامة بالقول: "نحن مقاولون"!
وعدا الثريينِ الشهيرينِ إيلون ماسك، وفيفيك راماسوامي الذي أسند لهما ترامب وزارة الكفاءة الحكومية ثمة عدد متزايد من المشاهير الذين ما يزال يأتي بهم الرئيس المنتخب الجديد يوميا تقريبا بوصفهم مرشحين لشغل ما بقي من حقائب الحكومة، والقاسم المشترك الذي يجمع بين هؤلاء المشاهير بحسب بعض المراقبين يتمثل في أنهم ينحدرون من خلفيات إعلامية، فقد اختار الرئيس المنتخب حتى الآن: شين دافي المذيع في فوكس نيوز وزيرا للنقل، ولندا مكماهون الشخصية التلفزيونية المعروفة وزيرة للتعليم، وكرستي نويم المحللة السياسية وزيرة للأمن الداخلي، وهورد لوتن، وهو أحد مشاهير حملة ترامب الانتخابية وزيرا للتجارة، وتولسي جابرد مقدمة البرامج على محطة فوكس نيوز وزيرة للاستخبارات الامريكية الوطنية، وثمة شبه إجماع على أن اختيار هؤلاء لم يكن لكفاءتهم بل لولائهم المطلق لترامب فضلا عن شهرتهم، وقدرتهم على إقناع الجماهير بصحة ما يتبنونه من أفكار.
وقد تعرض الرئيس ترامب إلى انتقادات موجعة جراء اختياراته هذه من لدن بعض السياسيين المخضرمين، وأبرزهم السناتور الديمقراطي (كرس كونز) حيث وصفهم بأنهم مجرد أعضاء في تلفزيون”Realty tv” الذي كان يعمل فيه ترامب سابقا.
ويُفضي التحليل المنطقي لقائمة المشاهير التي عرضنا لها آنفا إلى القول بأن هناك سببين رئيسيين لهذه الاختيارات، أحدهما يتمثل بأنهم سيشكلون درعا واقيا لترامب ضد الضربات المحتملة التي قد يوجهها أعداؤه له نظرا لما يتمتعون به من قدرة على الحوار والإقناع، والسبب الآخر يكمن في أن قلة خبرة هؤلاء الوزراء أو ضعف كفاءتهم في إدارة ما أوكله لهم ترامب من مهام ووظائف سيُبقيهم تحت سيطرته، أو نفوذه حتى النهاية.
ولكن هل يمكن تصور سيناريو الخضوع أو الإخضاع هذا في سياق التعامل مع شخص مثل إيلون؟ أغلب الظن أن ترامب مهما أوتي من قوة وذكاء لن يستطيع ترويض ماسك على غرار ما يمكن أن يفعله مع بقية أفراد طاقمه الحكومي، لاسيما أن علاقة الرجلين أي ترامب وماسك لم تكن بمستوى الودّ الذي هما عليه الآن قبل بضعة شهور فقط من هذا التاريخ.
وأن التوتر الذي ساد علاقتهما وجعلهما يبدوان بوصفهما خصمين في ما مضى يمكن أن يُستعاد ثانية تبعا لاحتمالات تبدل خريطة المصلحة لكل طرف منهما، ناهيك بسمة الطموح والتعالي التي تغلب على شخصية إيلون ماسك، وسجلها الحافل بالغموض، والغنوصية، والتمرد، وتغيير الولاء.
اضف تعليق