نصت القوانين التي تنظم شروط اختيار رئيس الهيئة المستقلة على شرط اساسي ومهم ويتمثل ان بتمتع المرشح لشغل منصب رئيس هيئة مستقلة بأعلى معايير السلوك الاخلاقي والنزاهة والأمانة، الا ان المشرع اغفل تحديد المعايير الموضوعية للنزاهة والأمانة التي يتم على اساسها اختيار رئيس الهيئة...
الهيئات المستقلة عرفت اولاً في الدول الاجنبية كنظام الامبودسمان في الدستور السويدي لعام 1809 او ما يعرف بالمفوض البرلماني او حامي الحقوق يتولى من خلاله شخص موثوق من قبل البرلمان بممارسة الدور الرقابي ومراجعة التصرفات الادارية، وعرف ايضاً المفوض البرلماني في بريطانيا عام 1967 وايضاً عرفت فرنسا نظام الوسيط الحكومي عام 1973، اما في العراق فلم يعرف هذا النظام الا في ظل قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004، واعيد توظيفه في ظل دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وقد استخدم المشرع الدستوري مصطلحات متعددة للدلالة على هذه المؤسسات منها ( هيئة، مفوضية، مجلس، شبكة، البنك المركزي، ديوان الرقابة المالية، دواوين الاوقاف …الخ)، وقد نظم المشرع العراقي الهيئات المستقلة في المواد (102 الى 108) من الدستور الا انه نأى عن تعريفها.
هيئات ادارية
اما فقهياً فقد عرفت بانها المؤسسات او الهيئات الادارية التي يحدد المشرع شكلها ومهامها واختصاصاتها تبعاً للمهام الموكلة اليها وهي في الغالب تتمتع بالاستقلال المالي والاداري والشخصية المعنوية ليتسنى لها ممارسة اعمالها، وتختلف درجة الاستقلال تبعا للتشريع الذي ينظمها ما بين مستقلة استقلال تام او شبه مستقله، وقد نظم المشرع الدستوري موضوع ارتباط هذه الهيئات الا ان هذا الارتباط لم ينظم بشكل دقيق ولم يحدد طبيعة هذا الارتباط.
وقد اثار ذلك بالنتيجة اشكاليات حول مدى استقلال هذه الهيئات فعلياً، كانت محلا لتفسيرات المحكمة الاتحادية العليا في عدة قرارات الا انها لم تغطي القصور في النصوص الدستورية التي نظمت هذه الهيئات، وهذا يحتاج من وجهة نظرنا اعادة هندرة النصوص التشريعية من خلال اعادة النظر بكافة النصوص الدستورية والقانونية التي تنظم عمل هذه الهيئات لزيادة كفاءتها وتحسين جودة مخرجاتها والخدمات التي تقدمها للجمهور لتحقيق رضاهم عن هذا الاداء من خلال التغيير الجذري في تنظيم هذه الهيئات وتحسين ادائها ، وسنحاول الاشارة الى اهم المحاور التي تحتاج الى اعادة هندرتها تشريعياً وكما يأتي :
ضمان استقلال هذه الهيئات، والاستقلال المقصود كحد ادنى الاستقلال الوظيفي على اقل تقدير، وقد تطرقت المحكمة الاتحادية العليا الى مفهوم الاستقلال بموجب قرارها التفسيري (228) لسنة 2006 والذي اشارت الى استقلال منتسبي هيئة النزاهة اذ بينت المحكمة الاتحادية العليا مفهوم الاستقلال للهيئات المستقلة بمعرض إجابتها على استفسار مجلس النواب / لجنة النزاهة النيابية عن الاستقلال المقصود بالمادة (102) من الدستور حيث جاء في حيثيات رأيها الاستشاري (… أن الاستقلال المقصود بالمادة (102) من الدستور هو أن منتسبي الهيأة وكلٌ حسب اختصاصه مستقلون في أداء مهامهم المنصوص عليها في قانون الهيئة لا سلطان عليهم في أداء هذه المهمة لغير القانون، ولا يجوز لأي جهة التدخل أو التأثير على أداء الهيئة لمهامها، إلاّ أن الهيئة تخضع لرقابة مجلس النواب في أداء هذه المهام.
فإذا ما حادت عنها أو تجاوزتها فإن مجلس النواب يملك لوحده محاسبتها، ويتخذ الاجراء المناسب في ذلك بها، ومعنى ذلك أن الهيئة تدير نفسها بنفسها وفقاً لقانونها شأنها شأن البنك المركزي الذي يتمتع بهذه الاستقلالية لتمكينه من أداء مهامه دون تدخل من الجهات الاخرى، وهذا خلاف ما ورد في المادة (103) من الدستور حيث حصرت الفقرة (أولاً) منها الاستقلال بالجانب المالي الإداري بالنسبة لديوان الرقابة المالية وهيئة الاعلام والاتصالات وربطتهما وظيفياً بمجلس النواب)، إلاّ أن المحكمة الاتحادية العليا خففت من رأيها الاستشاري بموجب قرارها المرقم (88/اتحادية/2010) في 18/1/2011 سابق الذكر عندما قررت أن ارتباط الهيئات المستقلة بمجلس النواب لا يحول دون اشراف مجلس الوزراء عليها استناداً للمادة (80/أولاً) من الدستور.
واعتبر الهيئات المستقلة الخاضعة لرقابة مجلس النواب تعود مرجعيتها لمجلس الوزراء وأنها مسؤولة أمامه شأنه شأن أي وزارة أو جهة تنفيذية غير مرتبطة بوزارة، وبذلك يكون قرار المحكمة الاتحادية العليا قد أخل باستقلال هيئة النزاهة عندما جعل مرجعيتها والاشراف عليها من مجلس الوزراء وهذا من شأنه التخفيف من حدة الرقابة التي تمارسها الهيئة على مجلس الوزراء، في حين ذهبت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها بالعدد ( 237/ اتحادية /2023) في 17/9/2024 الى اعتبار الهيئات المستقلة الواردة في الدستور هي هيئات دستورية اتحادية مستقله وليست سلطات اتحادية بغض النظر عن جهة ارتباطها ونوعية هذا الارتباط، وهذا هو ذات الرأي الذي اعتنقه المجلس الدستوري في فرنسا الذي عد الهيئات المستقلة هيئات ادارية لا تخضع للسلطة الادارية برابطه التبعية سواء كانت رئاسية ام وصائية .
انشاء هيئات
نص الدستور على انشاء عدة هيئات سميت بالدستور واكتسبت سند انشاءها بموجب نصوصه وبالتالي فـــــــان المشرع لا يملك سوى تنظــــــيم عملها بتشريع دون الغائها ، في حين ان الهـــــــيئات التي انــــشأت بموجب المادة (108) من الدستور وهي تزيد حــــــالياً عن عشرون هيئــــــة تخضع في انشائها او الغائها لصلاحية المـــــــشرع التقديرية وهذا من شأنه ان يخلق نوع من التمايز التشريعي بين الهيئات التي تملك سند انشائها بالدستور وغيرها التي انشأت بإرادة المشرع .
لازالت بعض التشريعات المنظمة لبعض هذه الهيئات المستقلة قديمة وشرعت قبل نفاذ دستور 2005 من سلطة الائتلاف ومنها الامر (65) لسنة 2005 بشأن انشاء هيئة الاعلام والاتصالات والامر (69) لسنة 2004 والخاص بإنشاء هيئة المخابرات الوطنية، وهذا يقتضي ان يتدخل المشرع لا عادة تنظيمها بموجب تشريعات تتلائم ومبادئ دستور 2005 وبما تتلائم مع وحدة الصياغة التشريعية المعتمدة من قبل المشرع الوطني .
لوحظ ان بعض الهيئات المستقلة تبنت في قانونها احكام تجعلها مماثلة لتشكيل الوزارة ومنها المادة (7) من قانون هيئة النزاهة رقم (30) لسنة 2011 المعدل والمادة (24) من قانون ديوان الرقابة المالية رقم (31) لسنة 2011 عندما تم النص على استجواب رئيس هيئة النزاهة ورئيس الديوان بنفس الية استجواب الوزير، وكذلك الحال بشأن اعفائهم .
بعض القوانين حملت تناقض بين النص الدستوري والنص القانوني المنظم لعمل الهيئة، ومن ذلك نص المادة (2) من قانون مؤسسة الشهداء رقم (2) لسنة 2016 التي نصت على تمتع الهيئة بالشخصية المعنوية في حين ان نص المادة (104) من الدستور حدد جهة ارتباطها فقط دون الاشارة الى تمتعها بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والاداري ، كما اعتبر قانون المؤسسة رئيس المؤسسة بدرجة خاصة وليس بدرجة وزير .
وجود تباين تشريعي كبير في تحديد الشروط الواجب توفرها فيمن يشغل منصب رئيس الهيئة تتفاوت من تشريع لآخر، وفي بعض التشريعات سكت المشرع عن ايراد مثل هذه الشروط اصلا، فعلى سبيل المثال لا الحصر شرط العمر لمن يرشح لشغل منصب رئيس هيئة مستقله فقانون هيئة النزاهة اشترط ان لا يقل عمره عن 40 سنة في حين اشترطت مفوضية حقوق الانسان ان لا يقل عمر المرشح عن 35 سنة في حين ان قانون مجلس الخدمة الاتحادي اشترط ان لا يقل عمر المرشح لشغل منصب رئيس المجلس عن 37 سنة، وهذا يقتضي اعادة النظر في كافة التشريعات وتوحيد الشروط العامة للترشيح لشغل مناصب رؤساء هذه الهيئات، ولم نجد من هذا التمايز في تحديد سن الترشيح اي مبرر عملي او قانوني .
نصت قوانين تنظيم الهيئات المستقلة على ان يكون رئيس الهيئة مستقلا ولا ينتمي لأي جهة سياسية ومن ذلك على سبيل المثال المادة (5/سادساً) من قانون هيئة النزاهة والمادة (23/سادساً) من قانون ديوان الرقابة المالية، في حين ان الواقع يشير الى ان شغل مناصب رؤساء الهيئات المستقلة يتم وفقاً للاعتبارات السياسية والحزبية لا على اساس الكفاءة والتدرج والاختصاص والشهادة والاستحقاق، اذا لاتزال هذه المؤسسات تخضع لنظام الغنائم في شغلها وهذا يؤثر بالنتيجة على جودة مخرجاتها، يقتضي الامر وضع ضمانات تشريعية لتحقيق شرط الاستقلال السياسي لشغل هذه المناصب .
نصت القوانين التي تنظم شروط اختيار رئيس الهيئة المستقلة على شرط اساسي ومهم ويتمثل ان بتمتع المرشح لشغل منصب رئيس هيئة مستقلة بأعلى معايير السلوك الاخلاقي والنزاهة والأمانة، الا ان المشرع اغفل تحديد المعايير الموضوعية للنزاهة والأمانة التي يتم على اساسها اختيار رئيس الهيئة، يقتضي من المشرع وضع معايير موضوعية لقياس شرط النزاهة والأمانة والسلوك الاخلاقي القويم .
في المقابل خلت القوانين الخاصة ببعض الهيئات المستقلة من ايراد او ذكر شروط اختيار رئيس الهيئة ، ومن ذلك قانون هيئة الحشد الشعبي رقم (40) لسنة 2016، وقانون الهيئة العامة لضمان حقوق الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم رقم (26) لسنة 2016 .
عدم توحيد اليات اختيار رؤساء الهيئات المستقلة وانفردت كل هيئة بالية خاصة لاختيار رئيسها، ومن استقراء نصوص قوانين الهيئات المستقلة يمكن ان تمييز عدة انماط للاختيار، الاول هو اقتراح الترشيح من لجنه مشكلة في مجلس النواب او من خبراء خارج المجلس، ثم يصادق مجلس النواب على المرشح بالأغلبية المطلقة لعدد اعضاءه.
اما النمط الثاني فيتمثل بترشيح رئيس الهيئة من بين اعضاء مجلس ادارة الهيئة او المفوضين ثم مصادقة مجلس النواب على التعيين، اما النمط الثالث فهو في حالة عدم النص على الية للاختيار في القانون، يتم الاختيار باستحصال موافقة مجلس النواب بنفس طريقه ترشيح الوزير في الكابين الوزارية، اما النمط الرابع فينحصر التعيين فيه برئيس الوزراء بعد موافقة المرجع الديني الاعلى وبمعزل عن مجلس النواب بالنسبة لرؤساء الدواوين الدينية.
وقد يكون التعيين بالتناوب لفترات زمنية من (2) الى (3) سنة كما هو الحال في رئيس مجلس المفوضين واعضاء مجلس المفوضين في هيئة الاعلام والاتصالات، او قد يكون التعيين من مجلس ادارة المؤسسة بالأغلبية من بين اعضائها كما هو الحال في مؤسسة السجناء السياسيين حيث يكون رئيس المؤسسة بدرجة وزير ويعين من قبل مجلس ادارة المؤسسة بالأغلبية.
اما النمط الاخير فهو خاص بتعيين القضاة من خلال قيام مجلس القضاء الاعلى بترشيح رئيس الهيئة ويوافق مجلس النواب كما هو الحال باختيار رئيس هيئة الاشراف القضائي بموجب قانون الهيئة المرقم (29) لسنة 2016، مما يتوجب على المشرع توحيد اليات الاختيار وعلى الاقل في المؤسسات التي تكون متماثلة بالتشكيل والطبيعة .
عدم تحديد المركز القانوني لرئيس الهيئة بشكل دقيق ، ووفقاً للمادة (19/ثانياً) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل فان رئيس الهيئة يعد مكلف بخدمة عامة كون رئيس الهيئة لا يندرج ضمن ملاك موظفي الدولة ولا ينطبق عليه وصف الموظف، في حين اعتبره البعض وزيراً والبعض اعتبره موظفاً بدرجة خاصة، وذهبت المحكمة الاتحادية العليا في قرارها (88) لسنة 2020 الى ان تحديد المراكز القانونية من اطلاقات السلطة التقديرية للمشرع.
لذا ندعو المشرع الى توحيد المراكز القانونية لرؤساء الهيئات المستقلة، نظراً لصعوبة تعديل الدستور بسبب جمود نصوص التعديل وصعوبة التوافقات السياسية لتلافي اخفاقات المشرع الدستوري فيما يتعلق بتنظيم الهيئات المستقلة، ندعو مجلس النواب الى التركيز على التشريعات المنظمة لعمل هذه الهيئات واجراء مراجعة تشريعية وتوحيد المبادئ التي تتنظم عمل هذه الهيئات وجهة ارتباطها وطبيعة الارتباط ووضع اليات موحدة لاختيار رؤساء الهيئات المستقلة وتحديد مراكزهم القانونية وشروط تعيينهم ورفع التمايز بين هذه الهيئات… والله الموفق .
اضف تعليق