أصبحت القوّة الناعمة، ولاسيّما الثقافية والفنية اليوم ركنًا متينًا من أركان دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، حتى أن بعض الدول النامية أخذت تحجز لنفسها مكانًا متقدمًا فيها، ليس بسبب قوتها العسكرية، بل بفعل إمكاناتها الاقتصادية التي توظفها في إطار دبلوماسية ثقافية تكون قادرة على الاستقطاب، لما تملكه من مقوّمات التأثير على الجماعات والشعوب...

غالبًا ما توقّف المختصون في السياسة الخارجية والديبلوماسية أمام سؤال معلن أحيانًا، وبعضهم في الكثير من الأحيان أمام سؤال ملغم، أي الحقول الأكثر تأثيرًا على كسب العقول واستمالة القلوب والتأثير في الرأي العام الخارجي؟ هل هو العلم والمؤسسات الأكاديمية والجامعات والأبحاث أم الفنون بمختلف صنوفها، ولاسيّما السينما؟ والسؤال ذاته حسبما يبدو شغل كتّابًا ومفكّرين وناشطين وشعراء وفنانين، وفي الوقت نفسه انشغل به أكاديميون وباحثون وساسة وإعلاميون ودبلوماسيون وأجهزة مخابرات، وكان شاعر أمريكي، يُدعى كارل سادنبيرغ قد طرح في ستينيات القرن العشرين السؤال الملتبس: أيهما أكثر تأثيرًا في سياسة الولايات المتحدة، هل هارفارد أم هوليوود؟

والمقصود بهارفارد هو جامعة هارفارد الشهيرة، والتي تعتبر أعرق الجامعات العالمية ، وقد تأسست في العام 1636، وسُميّت باسم المتبرّع الأول، رجل الدين البروتستانتي جون هارفارد، وهي أقدم مؤسسة للتعليم العالي في الولايات المتحدة، وتقع في مدينة كامبريج في ولاية ماساتشوستس. أما هوليوود فاشتهرت عالميًا بصناعة السينما وشركات الإنتاج والنجوم السينمائيين العالميين. وهي منطقة في مدينة لوس أنجلس في ولاية كاليفورنيا، وكان أول فيلم صوّرته (1908)، وجوابًا على السؤال الحائر أيهما أكثر تأثيرًا؟ قال سادنبيرغ على نحو مثير هارفرد أنظف من هوليوود، لكن هوليوود أكثر تأثيرًا من هارفارد في الوصول إلى أمد بعيد، والمقصود بذلك التأثير على الرأي العام العالمي.

ويبدو أن هذه الإجابة التي تعود إلى أيام الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين المتناحرين الرأسمالي والإشتراكي، والتي أصبحت أكثر وضوحًا بالتجربة العملية وليس من باب التكهّن أو التقديرات، بل وفقًا لما أكّده الواقع، خصوصًا وقد صيغت بشأنه عددًا من النظريات التي كان يعمل على بلورتها "ترست الأدمغة" أو "مجمّع العقول"، الذي يعمل بمعيّة الرؤساء الأمريكان منذ عهد الرئيس جون كينيدي، من بينهم عدد من مستشاري الأمن القومي ووزراء الخارجية، أبرزهم كيسنجر وبريجينسكي الذين استخدموا وسائل القوّة الناعمة للتغلغل داخل الكتلة الاشتراكية والتاثير على الرأي العام فيها، ولاحقًا كانت مادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وستانلي هادلي وغيرهم ممن ساهموا في تبني سياسة أبلسة الخصم وشيطنة العدو، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية.

وكان أبرز من صاغ مفهوم القوة الناعمة جوزيف ناي، وقد أظهرت الكاتبة اللبنانية حوراء حوماني كيف استخدمت واشنطن القوة الناعمة لصناعة الآخر لتحقيق أهدافها، فصورة إيران كانت حاضرة بقوّة في هوليوود. وحري بنا أن نعرف أن هوليوود تستولي على 80% من الأفلام التي تعرض في السينما العالمية، فأي تأثير لها على الرأي العام.

وهنا يمكن الاستدلال أن هارفرد، وإن كانت مؤثرة كجامعة أولى في العالم، لكن تأثيرها قياسًا لهوليوود يبقى محدودًا، التي لعبت دورًا بارزًا في الاضطلاع بالدور الإمبريالي وفي تشويه صورة الآخر، لاسيّما مع كل المعارضين لسياسة واشنطن، الذين تظهرهم دائمًا بالقبح والبشاعة، مما يثير اشمئزاز الرأي العام العالمي منهم، ويحدث ذلك بطريقة فنية محكمة وذكية وناعمة.

وتبقى هارفرد تحكمها قوانين وأنظمة ليس من السهولة التجاوز عليها، لما تتمتّع به من تاريخ ورصانة وأكاديمية وانضباط، وإن بإمكانها إمرار أهداف السياسة الخارجية والديبلوماسية الثقافية والأكاديمية والعلمية والترويج لنمط الحياة الأمريكي لدى النُخب، أما هوليوود فإن الجمهور هو من يهمها بالدرجة الأساسية حتى وإن كانت النخب هي التي تقوده.

السؤال الذي طرحناه في مقدمة هذه المقالة ليس ترفًا فكريًا أو حقلًا أكاديميًا نظريًا بقدر ما له علاقة بالواقع العملي، حيث يصبح حاجة ماسّة، تقاس نجاحات الدولة وقوّتها اليوم بمدى قدراتها الثقافية على تكوين علاقات دولية وتبادل المعلومات والمعارف والفنون، بما يؤدي إلى خدمة سياستها الخارجية، فما بالك إذا كانت منسجمة مع احترام الإنسان وحقوقه الأساسية العامة والفردية، وتحقيق التنمية المستدامة بجميع حقولها.

ديبلوماسية القرن الحادي والعشرين

أصبحت القوّة الناعمة، ولاسيّما الثقافية والفنية اليوم ركنًا متينًا من أركان دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، حتى أن بعض الدول النامية أخذت تحجز لنفسها مكانًا متقدمًا فيها، ليس بسبب قوتها العسكرية، بل بفعل إمكاناتها الاقتصادية التي توظفها في إطار دبلوماسية ثقافية تكون قادرة على الاستقطاب، لما تملكه من مقوّمات التأثير على الجماعات والشعوب والأمم الأخرى بالتجاوز على الوظيفة الديبلوماسية التقليدية، أي أنها تتضمّن الإبهار من جهة، واجتذاب الآخر بدلًا من ترويعه أو قهره بوسائل عسكرية أو عنفية من جهة أخرى، ربما تكون غير قادرة عليها، وإنما يمكنها التأثير الناعم عليه عبر الفنون والآداب والرياضة والسياحة والانفتاح الثقافي واللغة والعلاقات المباشرة.

وفي ذلك أكثر من مغزى وأكبر من دليل على قيمة الفن والأدب والثقافة وأدواتها المتنوعة في التغلغل الناعم والتأثير الهادئ على القلوب والعقول معًا، لاسيّما أنه يصل إلى غرف النوم حتى دون استئذان، في حين أن صرحًا علميًا كبيرًا مثل هارفرد، وهو وإن كان مؤثّرًا بلا أدنى شك، إلّا أنه أقل تأثيرًا من هوليوود في نشر القيم الأمريكية.

ولعلّ ذلك يعود إلى أن ما تنتجه هوليوود يصل إلى جمهرة واسعة وعريضة من البشر، خصوصًا وأن ما يحدثه الفن السابع، يكاد أن يهيمن على القلوب والعقول معًا، في حين أن المنتوج الأكاديمي يبقى محصورًا بنخبة محدودة وخاصة. وتسعى الدول الكبرى لتأمين مصالحها الحيوية عبر التأثير على الآخر بضخّ أوسع قدر ممكن من وسائل التأثير، وهو ما تساهم به هوليوود على نطاق واسع.

الاستثمار في الديبلوماسية الثقافية

لقد استثمرت دولًا صغيرة ومحدودة الإمكانات في الديبلوماسية الثقافية، لاسيّما الانفتاح والسياحة والقوّة الناعمة والصداقة والتسامح والتبادل الثقافي، لتأكيد المشترك الإنساني. وأظن أن الانفتاح الذي حصل في بعض الدول العربية، ترافقًا مع مشروع نيوم، يمكن أن ينقلها إلى مصاف دولة متقدمة بمعايير الديبلوماسية الثقافية، بما لها من ترابط مع الديبلوماسية الاقتصادية، وذلك جزء من الاستثمار العقلاني البعيد المدى للثقافة والديبلوماسية الثقافية والاقتصادية، الذي يمكن أن تنتهجه دولًا نامية لتحقيق أهدافها ورفع مكانتها في العلاقات الدولية، وبالطبع أن ذلك يحتاج إلى وعي جديد ورؤية واضحة وإرادة صلبة وإدارة سليمة وتعاون عربي لا غنى عنه.

ويمكننا تصوّر لو اجتمعت طاقات وجهود بعض دول المنطقة وشعوبها، مثل العرب والكرد والفرس والترك في ديبلوماسية ثقافية موحّدة ومتنوعة بينها جوامع عديدة ومشتركات كثيرة على الصعيدين الرسمي والشعبي، كيف يمكن أن تؤثر على صعيد الأمن الإقليمي وحماية المصالح الحيوية العليا، بل على صعيد المشاركة في حماية السلم والأمن الدوليين، خصوصًا إذا تمّ تسوية مشكلاتها بطرق سلمية وعبر الحوار والتفاوض على أساس احترام الخصوصيات وحق تقرير المصير ومراعاة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وليس بالشعارات الأيديولوجية العاطفية، بل بالمكانة التي يمكن أن تحتلّها دول المنطقة وشعوبها في نظام العلاقات الدولية المستقبلي والمتعدّد الأقطاب، الذي بدأت بعض ملامحه تتكوّن، وقد تزداد وضوحًا بعد تبلور نتائج الحرب الروسية - الأوكرانية والعدوان على غزّة الذي امتدّ إلى الضفة الغربية وشمل لبنان أيضًا.

اضف تعليق