فشلت السرديات السياسية والقومية والعرقية والطبقية، لقد خسر الصهاينة امكانية التعايش مع العرب والمسلمين بلا خوف ومن دون اصابع على الزناد، خسروها للمرة الاخيرة واختاروا سياسة ابادة الاخر وتحطيمه للتمتع بالأمن والسلام وهذه معادلة خاطئة، ستنتج نقيضها الطبيعي الذي يكسر هذا العلو الاسرائيلي...

منذ اعلان الدولة العبرية على ارض فلسطين عام 1948 ومراكز الدراسات والباحثون الصهاينة منهمكون بدراسة الشخصية العربية، عشرات الابحاث والدراسات انتجتها جامعات بار ايلان والعبرية وحيفا وغيرهما، ركزت على فهم سلوك العربي، عاداته، طباعه، أنماط تفكيره، سلوكه في حالات الانكسار والانتصار، الحزن، الفرح، طريقته في التفاوض وعقد الاتفاقات، حتى قراءته للتاريخ وفهمه لماضيه ونصوصه الدينية ونتاجه الادبي.

كل ذلك كان موضع عناية الباحثين اليهود مستفيدين من الدراسات المحلية التي انجزها الباحثون العرب عن الشخصيات المحلية والقومية (العراقية، المصرية، السورية، البدوية، الحضرية)، كذلك ركز الباحثون الصهاينة على دراسة مشكلات الأقليات في المنطقة العربية والعلاقات المأزومة احيانا بين الاديان والمذاهب والملل، وطريقة صنع القرار والسياسات.

استفادت الأجهزة الاستخبارية الاسرائيلية والساسة الصهاينة من كل هذه الجهود المعرفية والعلمية، رغم أن الكثير منها لم يخل من التحيز ومحاولة رسم صورة كاريكاتيرية عن الشخصية العربية وتوظيف ذلك في سياق الحرب المحتدمة، التي كانت تتجدد على مدار 75 عاما.

في جميع حروبها العدوانية التي شنتها إسرائيل على العرب، كانت سيكولوجيا الحرب هذه تعتمد اسلوب الصدمة والمفاجأة والمبالغة في القتل والتدمير والابادة وتوظيف التفوق العسكري والتقني لإركاع الخصم وسلبه امكانيات الصمود والمقاومة والثبات. 

كان من ضمن الأسلحة المستخدمة في هذه الحروب سلاح (التيئيس والإحباط) عبر تكثيف التدمير وزيادة اعداد الضحايا، وحمل الخصم على الاستسلام بإشعاره بعدم جدوى الحرب. رغم هذه الجهود التي حظيت بدعم الغرب عموما، غير أن مهندسي الحروب الصهاينة وخبراؤهم النفسانيين كانوا يستعجلون الانتصارات التكتيكية ويراهنون على عاملي القوة والزمن في اركاع الطرف العربي والاسلامي الرافض للدولة العبرية أمرا واقعا في المنطقة، ونجحوا بالفعل نجاحا نسبيا في جعل العرب والمسلمين يقبلون بالدولة العبرية، لكنهم اخفقوا في حمل الشارع العربي والاسلامي على نسيان تاريخ الصراع وهويته وتداعياته.

مازال الشطر الاكبر من العرب والمسلمين يحمل في جوانبه عداء للكيان الاسرائيلي، لدوافع دينية وسياسية وحتى ثقافية، ثمة سردية دينية ترفض وجود هذا الوجود المتغطرس وتشعر بخطره وضرورة مقاومته ورفض التطبيع معه، وما زال الوعي العام يحمل مصدات ثقافية وممانعة نفسية تزداد سخونة واستدامة، كلما ارتكب الجيش الصهيوني حملات ابادة وبادر إلى حروب عدوانية جديدة.

الخسارة الاستراتيجية التي لا يفكر بها ساسة وخبراء الكيان الاسرائيلي تتمثل في اهمال القراءة المتبصرة بسايكولوجية العربي والمسلم بعد كل منازلة عسكرية يحقق فيها هذا الكيان نصرا تكتيكيا، فقد خاض العرب حروبهم مع اسرائيل بدوافع وطنية وقومية وسياسية ومادية، وفي كل هذه المعارك التي خسرتها الاجيال، لم تتراجع الاجيال اللاحقة وتسلم بالأمر الواقع، بل إن كراهية الصهاينة صارت تتحفز بدوافع عقائدية ونصوص دينية، ما فشلت فيه (اسرائيل) حتى اللحظة انها لم تستطع انتزاع الرفض والمقاومة لوجودها من صدور الأجيال العربية رغم تأيرات العولمة وحملات التغيير الفكري والثقافي التي تعرضت لها، ومخاضات العولمة الثقافية التي ركزت على تقارب الثقافات والتسامح الديني والتعدد الثقافي ونبذ الكراهيات؟! 

سيكولوجية رد العدوان ورفض الخضوع والاستسلام تستبطنها فئة ضخمة من الاجيال المعاصرة وتستحثها عبر الاستمداد من الموروث الديني والتاريخ السياسي والقومي، بلغة مباشرة سيحصد الصهاينة مزيدا من التشدد العربي - الاسلامي في قبال جنوحهم نحو ابادة النوع البشري.

وكما عانى اليهود من (الهولوكست) وصار ذلك دافعا لهم ولحماتهم لتأسيس وطن قومي لهم، فإن إصرارهم على فرض الاستسلام وانتزاع (السلام! كما يزعمون) بالقوة والتدمير وسحق الكرامة، سينقلب عليهم بنتيجة معاكسة، مزيد من التشدد بل وحتى التطرف الديني والايديولوجي، والانسياق مع النبوءات الدينية، التي تتحدث عن نهاية بني اسرائيل. 

ومثلما جنح المستوطنون الصهاينة الجدد إلى الفكر التوراتي وازاحوا العلمانيين واليساريين اليهود، فإن موجة دينية قوية متشددة ستكون اقوى بمرات من حزب الله وحماس والجهاد الاسلامي ستأخذ على عاتقها ضرب الوجود الاسرائيلي والغربي، بما يدمر أي منظومة سياسية أو استقرار امني وسياسي في المنطقة. 

لقد أنتجت الانكسارات العربية السابقة، حلول الاصولية الاسلامية محل الاصولية القومية وتياراتها الناصرية والعروبية، ونجحت الاصولية الاسلامية في تسيد الشارع واستمرت تعمل بنشاط لمدة نصف قرن بأكمله، وستحل موجة جديدة من الأفكار والتيارات محل هذه الموجة ايضا لأنها تستبطن حقدا وقيما وثأرا للقصاص من التواطؤ الغربي والخواء العربي والعالمي امام غطرسة الصهاينة وحماية العالم الغربي لهم.

لا أجد تفسيرا لهذه المتغيرات غير نظرية الصراع الواقعي للجماعات، فالصراع يأخذ طابع (النحن) و(الهم)، الصراع على الأرض، الحيز، المكان، الزمان، اليهود الصهاينة الذين زعموا ان فلسطين ارض بلا شعب، وانها كانت البقعة التي اقام فيها اليهود دولهم قبل 3500 سنة، يريدون اليوم منع الفلسطينيين ومن جاورهم من اشقائهم، من التمتع بحياة كريمة ودولة أو دول مستقرة قادرة على حماية شعوبها، هذه المعادلة دخلت في اللا شعور السياسي للفرد العربي ولدى المسلمين عموما، ولن يجدوا افضل من الرواية الدينية التي تتحدث عن معركة فاصلة بين الجانبين، لبناء سرديتهم للصراع بعدما فشلت السرديات السياسية والقومية والعرقية والطبقية، لقد خسر الصهاينة امكانية التعايش مع العرب والمسلمين بلا خوف ومن دون اصابع على الزناد، خسروها للمرة الاخيرة واختاروا سياسة ابادة الاخر وتحطيمه للتمتع بالأمن والسلام وهذه معادلة خاطئة، ستنتج نقيضها الطبيعي الذي يكسر هذا العلو الاسرائيلي.

اضف تعليق