ضمن تطور ظاهرة الوصمة والتي مثلتها استقالة رئيسة جامعة بنسلفانيا هذا العام لأنها في شهادتها أمام الكونغرس لم ترد التنازل عن حرية الفكر في جامعتها بسبب احداث غزة وتصاعد الثقافة العضوية للطلبة والجامعة ضد الكيان الاسرائيلي ووحشية الابادة الجماعية في غزة، فهي ليست إلا خطوة في مسار متصاعد في أميركا وأوروبا نحو القمع الفكري...

تختلف المجتمعات الانسانية في التعاطي مع مفهوم الوصمة stigma بكونها مجموعة من المعتقدات السلبية وغير العادلة في كثير من الأحيان والتي هي متداولة لدى مجتمع أو مجموعة من الناس. ولاسيما المرتبطة بالمرض العقلي (وصمة المرض العقلي) او وصمة الفوارق الطبقية (وصمة العوز).

واستناداً لذلك نشر عالم الاجتماع إرفينغ كوفمان Erving Goffman كتابًا في العام 1963 بعنوان :(وصمة العار: ملاحظات حول إدارة الهوية المشوّهة -Stigma: Notes on the Management of Spoiled Identity)و الذي ظل يعد من أهم أعماله.

ففي هذا الكتاب، قدم كوفمان مفهوم "الوصمة" (stigma) بكونها سمة أو صفة تجعل الفرد يُعتبر منبوذًا أو غير مقبول اجتماعيًا.

فالكتاب له تأثير كبير في مجال علم الاجتماع، حيث ألقى الضوء على الديناميكيات الاجتماعية المتعلقة بالتمييز والإقصاء وتحديد الهوية.

وحسب رؤى كوفمان، تنشأ الوصمة (التي عرفها بشكل كلاسيكي ) هي عندما يتم تصنيف شخص معين بناءً على سمات تُعد غير مقبولة أو منحرفة من قبل المجتمع. اذ ان هذا التصنيف يمكن أن يكون مبنيًا على مظهر خارجي، كالسلوك او الخلفيّة الاجتماعية او آلمرض، أو معتقدات معينة. وهنا يميز كوفمان بين ثلاثة أنواع من الوصمة :

الوصمة الجسدية المرتبطة بالتشوهات الجسدية أو الإعاقات.

والاخرى هي الوصمة المرتبطة بالسمات الشخصية مثل السمعة السيئة او الاضطرابات العقلية أو الإدمان او السجل الجنائي للفرد.

واخرها الوصمة الجماعية المرتبطة بالعرق او الدين أو الجنسية.

ولكن اخطر الوصمات ، هي (الوصمة الأيديولوجية ) التي تشير إلى النظرة السلبية أو التحيز الذي يُلصق بفرد أو مجموعة بسبب معتقداتهم أو أفكارهم السياسية أو الأيديولوجية. اذ يتجلى هذا المفهوم عندما يتم الحكم على الأشخاص أو تهميشهم بناءً على انتمائهم الأيديولوجي أو معتقداتهم دون النظر إلى حججهم أو أفكارهم بشكل موضوعي.

وعلى نطاق المدرسة المشرقية نجد هناك تحديدا للوصمة يتسم بالتفكيكية الراقية، قدمها المفكر السياسي حسين العادلي عندما تناول فكرة الوصمة التي اطلق عليها ( العار) .

وهنا قد يختلف العادلي عن كوفمان في معنى الوصمة، اذ ركز كوفمان على كيفية تأثير الوصمة على هوية الفرد وكيفية تفاعله مع الآخرين في المجتمع. موضحاً أن الأفراد المصابين بالوصمة يحاولون إدارة هويتهم وإخفاء السمات التي قد تؤدي إلى نبذهم أو معاملتهم بشكل مختلف.

في حين كشف العادلي عند تناوله ( العَار) باظهار باطنية الفكرة ضمن (ديالكتيك ) اخلاقيات المجتمع الشرقي ومثله العليا ، بالقول:

• مَن (استَخَفَ) بالشائِبَة، (استَهانَ) بالعَار.

• لا (يتَبَيَّن) العَار: مَن لا شخصيّة له، ومَن لا حَسَبَ له، ومن لا تارِيخ له.

• (كُلّ) عَارٍ من الفَضِيلَة، عَار.

• (الطَمع) مَصيَدة العَار، ومَن استَغنَى شَرُف.

• أَخَسّ عَار (السَّرقَة)، وأَقبَح عَار (الكَذِب)، وليسَ بعدَ (الخِيانَة) من عَار.

• (مَن) رَكِب العَيب، رَكبَه العَار.

• أَغلَب ما يَجلِب (العَار) السِّياسَة، وأكثَر ما يُقدِم (المَجد) السِّياسَة!!

• على قَدَر (المَنزِلَة) يكون الشَّنار، وعلى قَدَر (المَسؤولية) يكون العَار.

ومن جانبنا نرى بان وصمة العار الأيديولوجية Ideological stigma هي من اخطر حروب الانغلاق الإديولوجي، حيث تشير وصمة العار الأيديولوجية إلى التصورات السلبية أو الأحكام المسبقة أو التمييز الذي يتعرض له الأفراد أو الجماعات بسبب معتقداتهم أو مواقفهم الأيديولوجية. و تنشأ هذه الوصمة عندما يحمل الفرد آراءً غير شائعة أو مثيرة للجدل أو تتعارض مع الأيديولوجية السائدة في سياق اجتماعي أو سياسي أو ثقافي معين.

اذ يتم غالباً تناول هذا المفهوم في سياق الاستقطاب السياسي أو الاجتماعي، حيث تصبح الأيديولوجيات المختلفة مصدرًا للانقسام والصراع.

فعلى سبيل المثال، قد يتعرض شخص لوصمة العار الأيديولوجية بسبب تبنيه فكر سياسي يتعارض مع الرأي العام، مثل الاشتراكية في مجتمع رأسمالي، أو العلمانية في مجتمع ديني وغيرها ،فهذه الوصمة يمكن أن تؤدي إلى التهميش أو التمييز أو العزلة الاجتماعية.

فالمعارضون للحروب على سبيل المثال : خلال فترة حرب فيتنام او حرب غزة ، والذين عارضوا الحرب وانتقدوا سياسات بلادهم في تلك الفترة عدوا وصمة عار في مجتمعتهم المناهضة للحرية ، حيث تم وصفهم بالخيانة أو بعدم الوطنية، وتعرضوا للسخرية والنبذ من جانب المؤسسات الامبريالية وماكينتها الاعلامية .

وابان الحرب الباردة التي اطلق شرارتها وينستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الاسبق في العام 1946 بالضد من شعار (يا عمال العالم اتحدوا ) وتحت شعار (يا اعداء الشيوعية اتحدوا ) ذهبت الولايات المتحدة، خلال فترة الحرب الباردة (1947-1991) الى حملة الوصمة الايدولوجية، اذ تعرض العديد من الأفراد الذين كانوا بالضد من الأيديولوجية الرأسمالية الى الاضطهاد الشديد.

و أصبح ذلك يُعرف باسم (المكارثية McCarthyism)‏ هو سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة. حين وجد سناتور جمهوري أميركي مارق، وهو جوزيف مكارثي سندا له في حملة (الشطط ) المجسدة في شخص مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي وقتها ادجار هوفر وهو مايطلق عليها بالهوفرية ايضا The Hooverian

والتي بدأها السناتور مكارثي باتهام موظفين في الادارة الاميركية، خاصة في وزارة الخارجية والجامعات ومراكز الابحاث الامريكية، بأنهم أعضاء في تنظيمات شيوعية. وكان ذلك في عز الحرب الباردة ، وهو يرى بان مسألة الشيوعية من أكبر مخاطر الأمن القومي الأميركي في ظل ثنائية القطبية في العالم بين واشنطن والاتحاد السوفييتي السابق.

حيث تم نبذهم اجتماعياً وفصلهم من وظائفهم، وأحيانًا حوكموا بناءً على توجهاتهم الأيديولوجية ، وكان من بينهم المفكر و الاقتصادي الكبير بول سويزي (Paul Sweezy) الذي كان اقتصاديًا ماركسيًا أمريكيًا بارزًا ومفكرًا سياسيًا، اشتهر بدوره في تطوير وتحليل الاقتصاد الماركسي في القرن العشرين ، اذ وُلد في العآم 1910 وتوفي في العام 2004. ومن اشهر اعماله كتاب “رأس المال الاحتكاري” (Monopoly Capital) حيث شارك في تأليفه مع الاقتصادي هاري ماغدوف (Harry Magdoff). وهو واحد من أهم الأعمال التي تقدم تفسيرًا ماركسيًا لتطور الرأسمالية الحديثة في القرن العشرين، حيث ناقش سويزي دور الاحتكار في الاقتصاد الرأسمالي وكيف أدى إلى أزمات اقتصادية واجتماعية.

في وقت اشتهر عالم الاقتصاد بول سويزي كمؤسس مشارك لمجلة “مونثلي ريفيو” (Monthly Review) عام 1949، التي كانت واحدة من أهم المجلات اليسارية المستقلة في الولايات المتحدة، والتي ركزت على الاقتصاد الماركسي والنقد الاجتماعي والسياسي.

واخيرا, ينبغي ان لاننسى النزعة المكارثية الجديدة The New

‏McCarthyism

‎ضمن تطور ظاهرة الوصمة والتي مثلتها استقالة رئيسة جامعة بنسلفانيا هذا العام لأنها في شهادتها أمام الكونغرس لم ترد التنازل عن حرية الفكر في جامعتها بسبب احداث غزة وتصاعد الثقافة العضوية للطلبة والجامعة ضد الكيان الاسرائيلي ووحشية الابادة الجماعية في غزة، فهي ليست إلا خطوة في مسار متصاعد في أميركا وأوروبا نحو القمع الفكري والتشدد الأصولي الذي يقمع حرية الرأي تحت يافطة الوصمة الايديولوجية.

اضف تعليق