وما زلنا إلى اليوم في حاجة لهذه الفرص، وسنظل في حاجة مستمرة إليها، وذلك في إطار حاجتنا إلى التقدم، والذي ينبغي أن يتحول إلى منظور رؤيتنا إلى العالم، المنظور الذي يجعلنا نفتش وننقب بكفاح ومكابدة عن فرص وتجارب النهوض والتقدم في الميادين كافة، ومهما كان نوعها ودرجتها...
(1)
في سنة 1950م تساءل الشيخ أبو الحسن الندوي (1333-1420هـ/1914-1999م) عن: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ التساؤل الذي اختاره عنوانا لباكورة مؤلفاته، وهو الكتاب الذي عرف واشتهر به في المجال العربي، خاصة وأنه أصدره في القاهرة عن طريق لجنة التأليف والترجمة والنشر، وأشرف على طباعته في وقتها الكاتب المصري أحمد أمين (1295-1373هـ/1887-1954م).
وفي سنة 1981م عند كتابة مقدمة الطبعة الثالثة عشرة من الكتاب، أي بعد ما يزيد على ثلاثة عقود، وعند النظر من جديد في موضوع الكتاب اعتبر الشيخ الندوي أن موضوعه كان طريفا ومبتكرا، وهذا في نظره من أسباب انتباه كثير من الناس له، وإثارته لدهشة الكثير منهم.
وأراد الندوي من هذا التساؤل، تجاوز الإطار التقليدي الذي فرض حسب قوله، على الكتاب والمؤلفين العرب والعجم، الذين اعتادوا النظر إلى المسلمين من خلال العالم، في حين أنه أراد النظر إلى العالم من خلال المسلمين، بخلاف ما سماه المنهج الفكري العام، وأسلوب البحث الدائم والمتبع.
ولهذا يرى الندوي أن بدل التساؤل عن: ماذا خسر المسلمون بسبب نهضة الغرب الحديثة؟ وماذا خسر المسلمون بسبب الثورة الصناعية الكبرى التي حصلت في الغرب؟ وغيرها من التساؤلات التي تتصل بهذا المنهج، بدلا عن ذلك تساءل الندوي متقصدا ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ منطلقا من خلفية أن المسلمين هم الفاعل العالمي المؤثر في مجاري الأمور في العالم كله.
وفي وقت لاحق، ومن منظور نقدي وتقويمي مقارن وجد الدكتور رضوان السيد في كتابه (سياسيات الإسلام المعاصر.. مراجعات ومتابعات) الصادر سنة 1997م، أن تساؤل الندوي جاء معبرا عن تحول وصفه بالانكماشي في طريقة فهم المسألة الحضارية الكبرى، جعلت من تساؤل الندوي يتقدم على تساؤل شكيب أرسلان (1286-1366هـ1869-1946م) لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟
مع ذلك فإن تساؤل الندوي الذي جاء بعد عقدين من الزمن، لم يستطع أن يحل مكان تساؤل أرسلان، الذي اختاره كذلك عنوانا لكتابه الوجيز الصادر سنة 1930م، وبقي تساؤل أرسلان معبرا عن جوهر إشكالية النهضة في المجالين العربي والإسلامي، وموصوفا بسؤال النهضة في الأدبيات العربية المعاصرة.
وقد وجدت أن هناك تساؤلا مهما ينبغي أن نحركه في مجالنا التداولي، وهو: ماذا كسب المسلمون من تقدم العالم؟
هذا التساؤل في تقديري هو أكثر أهمية، وأشد قيمة من تساؤل الشيخ الندوي، وأنه أوجب عملا من ناحية منطق الأولوية والضرورة، وذلك بلحاظ وضعيتنا التاريخية من جهة، وبلحاظ المفارقات الحضارية البعيدة التي باتت تفصلنا عن تقدم العالم من جهة أخرى.
ويفترق هذا التساؤل عن تساؤل الندوي في طريقة النظر إلى الذات، وفي طريقة تقدير الوضعية التي نحن عليها اليوم، وفي طبيعة رؤيتنا وعلاقتنا بالعالم، وهي الحالات التي تغلب إشكالية التقدم، وتجعل من التقدم مطلبا رئيسا يتقدم على جميع المطالب الأخرى، بخلاف تساؤل الندوي الذي تسكنه الرغبوية، وتحديدا الرغبة في قيادة المسلمين للعالم، وربط مصير العالم بزعامة المسلمين، انطلاقا من خلفية إسهام المسلمين الأوائل في حضارة العالم.
هذه الطريقة الرغبوية من التفكير لا أثر لها في حركة التاريخ، فالتاريخ لا تحركه الرغبات أو التمنيات، وإنما تحركه القوانين والسنن التاريخية التي لا تبديل لها ولا تغيير.
(2)
سوف يسجل علينا التاريخ الحديث والمعاصر أن العرب والمسلمين كانوا من بين الأمم التي فوتت عليها فرص الاستفادة من تقدم العالم، وهي الفرص التي غيرت وجهة العالم، وأحدثت أعظم تحول في بنية الاجتماع الإنساني، وقلبت منظورات الرؤية إلى العالم، وأطلقت معها موجات متتالية من التغيرات المؤثرة.
فمع مطلع القرن العشرين حصلت في أوروبا ما عرف بالثورة الصناعية الكبرى التي قلبت صورة أوروبا، وجعلت منها مركز الصناعة في العالم، وتغيرت اقتصادياتها، وتراكمت ثرواتها، وتبدلت أنماط العيش والحياة فيها، ومثلت هذه الثورة حدثا كبيرا مدويا على مستوى العصر، حدثا تنبهت إليه المجتمعات والأمم الحية في العالم، لكنها التجربة التي مرت علينا ومضت من دون أن نتوقف عندها، ونستفيد منها.
ومرت علينا التجربة اليابانية على عظمتها، وظلت تثير وما زالت دهشة العالم، تجربة أخذت من الغرب ما تستطيع، لكنها فلتت منه ولم تقع في استلابه وتبعيته، وقدمت نموذجا ينتمي إلى الشرق وثقافته وتراثه، وهذا ما أثار دهشة وحنق الغربيين، لكننا لم نتعلم من هذه التجربة، ولم نستفد منها.
ومرت علينا كل تلك التحولات والتطورات العلمية والتقنية المدهشة والمتعاظمة التي شهدها الغرب واليابان من بعد تلك الثورة الصناعية، ولم تحدث تغيرا حقيقيا في تطوير حياتنا العلمية والتقنية.
وتمر علينا اليوم مع العولمة ثورة المعلومات وما سمي بانفجار المعرفة، والتطورات المذهلة في مجالات الاتصال والإعلام والمعلوماتية، ونحن لا نملك إلا أن نظهر الخوف والشك والقلق، وإذا كان من المبرر أن نخاف، إلا أن هذا الموقف بالتأكيد ليس كافيا على الإطلاق، فهو موقف الضعيف الفاقد للثقة بالذات.
وردا على هذا الموقف نقدا وتفكيكا، تعمدت التساؤل حول لماذا لا تكون العولمة مكسبا لنا؟ السؤال الذي جاء شارحا لكتابي (الإسلام والعولمة) الصادر سنة 2010م.
وتمر علينا اليوم كذلك نهضة الصين الصاعدة بهدوء وثبات ومن دون ضجيج، والتي يراقبها الغربيون بنوع من الحذر، خوفا من أن يتحول مركز العالم من الغرب إلى الشرق، فماذا نحن أخذنا وتعلمنا من هذه التجربة!
هذه الفرص العظيمة والمدهشة التي مرت على العالم في أزمنة متعاقبة، وكسبت احترام وتقدير البشر على تعدد واختلاف ألوانهم وألسنتهم وأمكنتهم وأديانهم، هذه الفرص كنا نحن العرب والمسلمين بأمس الحاجة إليها، وكان المفترض منا الانفتاح عليها، والتفاعل معها، والاقتراب منها، والاتصال بها، ليس بصورة مؤقتة وإنما بصورة مستمرة، وليس بطريقة عفوية وعابرة وإنما بطريقة مدروسة وممنهجة، وليس بذهنية تجزيئية ومفككة وإنما بذهنية شاملة ومركبة.
وما زلنا إلى اليوم في حاجة لهذه الفرص، وسنظل في حاجة مستمرة إليها، وذلك في إطار حاجتنا إلى التقدم، والذي ينبغي أن يتحول إلى منظور رؤيتنا إلى العالم، المنظور الذي يجعلنا نفتش وننقب بكفاح ومكابدة عن فرص وتجارب النهوض والتقدم في الميادين كافة، ومهما كان نوعها ودرجتها، ونحاول الوصول إليها أينما كانت قريبة أو بعيدة، سواء كانت غربا في أوروبا، أو شرقا في اليابان والصين وكوريا الجنوبية، أو شمالا في أمريكا وكندا والبرازيل، أو جنوبا في جنوب إفريقيا، أو في أي مكان آخر.
ولا حرج على الإطلاق في هذا الجانب، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وتجارب النهوض والتقدم هي من مصاديق هذه الحكمة، ولعلها من أوضح وأبلغ هذه المصاديق.
والحكمة لا تأتي إلينا، وإنما نحن الذين نذهب إليها ونفتش عنها، وهي لا تعظنا وتعلمنا إذا نحن لم نتعظ منها ونتعلم، كما أن الحكمة هذه لا تتحدد بمكان أو زمان، ولا تتقيد بموضوع أو مجال، وهي تعني انتخاب الصالح والأصلح في كل شي له قابلية الأثر والاقتباس والتطبيق.
ويتأكد هذا المنحى كذلك، مع قاعدة التلازم بين السير والنظر في الأرض، التي نص عليها الخطاب القرآني في آيات عدة، منها قوله تعالى: (فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا* أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كانت عاقبة الذين من قبلهم) –سورة فاطر: 43-44.
فالسير في الأرض هو للنظر وليس للتلهي، وعلى امتداد الأرض أفقيا وعموديا، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وليس في جزء من الأرض، أو في اتجاه واحد، أو في مكان معين منها.
ما أود التأكيد عليه أننا بحاجة لأن نستعيد مفهوم التقدم، ونتخذ منه منظورا لرؤيتنا إلى العالم، على أمل أن نغير في أحوالنا البائسة، وأن نوقف الانحدار المستمر الذي نحن عليه كمسلمين، ومن هنا ينبغي أن يتقدم سؤالنا: ماذا كسب المسلمون من تقدم العالم؟
(3)
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي حاول كل من رفاعة الطهطاوي في مصر، وخير الدين التونسي في تونس، إقناع المسلمين في عصرهما بضرورة الاستفادة من تقدم العالم، والانفتاح على المدنية الأوروبية والاقتباس من مكاسبها ومنافعها، ولتأكيد هذا المنحى وتعزيزه، ولشدة قناعتهما به، فقد عملا على بلورة نظريتين مهمتين، نالتا لاحقا شهرة وتداولا في الخطاب الإصلاحي العربي الحديث.
هاتان النظريتان هما: نظرية المنافع العمومية التي عرف واشتهر بها الطهطاوي، ونظرية التنظيمات الدنيوية التي عرف واشتهر بها التونسي، وقد عرف الطهطاوي بنظريته وشرحها وأسس لها، وكشف عن موادها وأقسامها وتطبيقاتها في كتابه الشهير (مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) الصادر سنة 1869م، وعرف التونسي عن نظريته وشرحها وأسس لها في كتابه الشهير كذلك (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) الصادر سنة 1868م.
تستند هاتان النظريتان على أمرين متلازمين، الأمر الأول حاجة المسلمين إلى الاستفادة من مكاسب ومنافع المدنيات الأخرى، وتحديدا المدنية الأوروبية التي كانت تشهد تقدما وتفوقا آنذاك، والأمر الثاني التأكيد على أن الشرع الإسلامي لا يمنع أو يعارض الاقتباس وتحصيل المنافع من المدنيات الأخرى غير المسلمة.
والتأكيد على هذين الأمرين يأتي في سياق دفع المسلمين نحو الخروج من حالة التأخر، وتحصيل أسباب التقدم، لإصلاح الأحوال العامة، وحماية كيان الأمة الإسلامية، واكتساب القوة والمنعة والهيبة في مقابل الأمم الأخرى.
والنظر في هذين الأمرين يكشف عن إدراك العلاقة بين فكرة التقدم وفكرة الهوية، فالأمر الأول جاء ناظرا لفكرة التقدم، والأمر الثاني جاء ناظرا لفكرة الهوية، بقصد رفع الخشية والحرج من تأثير التقدم على الهوية، وتأكيد أن الهوية لا تمنع أو تعيق اكتساب التقدم.
وقد تقصد الطهطاوي استعمال تسمية المنافع العمومية، وكان واعيا ومتنبها لهذه التسمية الدقيقة والبليغة في مجالها، وهي تعني أن ما يريد الطهطاوي المطالبة به، والدعوة إليه، إنما يدخل في نطاق المنافع العمومية، فهي من جهة منافع تجلب معها منفعة، وجلب المنفعة له أصل راجح في الشريعة وفي الشرائع عموما، ويقره العقلاء والحكماء جميعا، وهي من جهة أخرى لها صفة العمومية، فهي ليست منافع خاصة بملة أو شريعة، كما أنها ليست خاصة بمكان أو بزمان، وغير قابلة للتحصيل والاقتباس.
ومن أبلغ النصوص التي أوضح فيها الطهطاوي المدخل إلى هذه النظرية، النص الوارد في مقدمة كتابة (مناهج الألباب..)، والذي قسم فيه التمدن إلى أصلين، وحسب قوله: أن للتمدن أصلين، معنوي وهو التمدن في الأخلاق والعوائد والآداب، يعني التمدن في الدين والشريعة، وبهذا القسم قوام الملة المتمدنة التي تسمى باسم دينها وجنسها لتتميز عن غيرها.
والقسم الثاني تمدن مادي، وهو التقدم في المنافع العمومية بالزراعة والتجارة والصناعة، ويختلف قوة وضعفا باختلاف البلاد، ومداره على ممارسة العمل وصناعة اليد، وهو لازم لتقدم العمران.
ومن جهته تقصد التونسي استعمال تسمية التنظيمات الدنيوية، وكان واعيا ومتنبها لهذه التسمية، وهي تعني أن ما يريد المطالبة به، والدعوة إليه، إنما يدخل في نطاق التنظيمات الدنيوية، فهي من جهة تنظيمات أي طرق ووسائل وآليات لها علاقة بالإدارة والتدبير والتنظيم وليست شرائع وعقائد وعبادات، وهي من جهة أخرى دنيوية لها علاقة بأمور الدنيا وليست لها علاقة بأمور الدين.
ودفاعا عن هذه النظرية وتمسكا بها، دعا التونسي إلى تحذير ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير، الموافقة لشرعنا، بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر، وتآليفهم في ذلك يجب أن تنبذ ولا تذكر، حتى أنهم يشددون الإنكار على من يستحسن شيئا منها، وهذا على إطلاقه في نظر التونسي خطأ محض.
ويرى التونسي أن الأمة الأوروبية إنما تقدمت في العلوم والصناعات بسبب هذه التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية، ومن هنا دعوته وتأكيده على الانفتاح والاقتباس من التجربة الأوروبية، وأراد من كتابه أن يكون منهجا يرسم فيه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، وبالذات بالخصوص البلدان الأوروبية التي لا يتم الغرض من كتابه حسب قوله، إلا ببيان أحوالها.
وما حصل هذا الإدراك عند الطهطاوي والتونسي إلا بعد المعرفة المزدوجة، المعرفة بأحوال المسلمين من جهة، والمعرفة بأحوال المدنية الأوروبية من جهة أخرى، فقد تعرفا على هذه المدنية عن قرب ومن خلال المعايشة، وبواسطة النظر الفاحص المستند إلى المتابعة والتدوين والتوثيق.
لكن هذا الإدراك، وهذا الأفق الإصلاحي والنهضوي قد انقطعنا وانفصلنا عنه فكريا وروحيا، وبسببه تراجعت وانكمشت رؤيتنا وعلاقتنا بفكرة التقدم، وخسرنا الاستفادة من تقدم العالم.
اضف تعليق