أساليب المقاومة اللاعنفية تتطور مع التطور الحضاري لسلم القيم الانسانية والثقافة والمعرفة، لأن قوة الاستبداد ووحشيته تنبع من تنامي الجهل والفوضى وبدائية المجتمع المدني. لان المقاومة العنيفة بالتجربة هي من أفشل المقاومات على الإطلاق، بدليل أنها ظلت استثناء من قاعدة عامة، هي قاعدة السلم العام...

تجربة العنف والعنف المضاد في العالمين، العربي والإسلامي معا، بدأت تفقد حرارتها، ولا ندري، ماذا سيكون عليه المستقبل؟ فربما تسخن من جديد، وربما ستلفظ أنفاسها، الشيء الذي ندركه ان العنف المنتشر في بلادنا لم يحل مشاكلنا بل زادها تعقيدا وحول حياة الشعوب الى نحو مزيد من الاحباط واليأس والفوضوية.

واليوم قد يكون للتفاؤل وجود لان هناك إدراك جديد لسلبيات العنف وتحول في منظومة القيم، ليس فقط لأن حكومات هذه الدول، أخذت تزحف – طواعية أو كراهية- نحو النهج الديمقراطي وحسب، بل لأن الشعوب العربية والإسلامية اقتنعت في نهاية المطاف، بأن إستراتيجية المقاومة اللاعنفية هي السبيل الأمثل لاستحصال حقوقها السياسية والاقتصادية على وجهها الأصح.

فهل تتحقق مطالب شعوبنا المشروعة من حكومتها عندما تلجأ كتل المعارضة إلى استخدام العصيان المدني، كوسيلة ضغط من اجل التغيير؟

العصيان المدني، هو ببساطة، أن تعصي القانون وتطيعه في آن واحد، فهو أرقى صور التمرد والمقاومة والرفض والاحتجاج... ولكن بالشكل السلمي المتحضر. له صور متعددة، مثل أن يخرج المعارضون بشكل جمعي، وفي أوقات محددة، لإجبار السلطات الحاكمة على الانصياع لمطالب المحتجين الهادئين. ومثل رفض الموظفين للذهاب إلى دوائر الدولة، والمدارس والجامعات والمصانع والمعاهد، مع إغلاق كل الأسواق والمحلات التجارية والأفران. ومثل امتناع سائقي السيارات العامة والخاصة ومحطات الوقود وسيارات الأجرة في داخل المدن وخارجها. ومثل أن يخرج "العاصون" وهم يرتدون الثياب السود أو البيض رجلا ونساءا ولكن بهدوء، لا شعارات، لا صراخ، ولا نداءات معادية، ولكن عصيان بهدوء. وكالجلوس في الشوارع الكبرى، وعلى أرصفتها، وفي وسطها، ولكن بصمت.

يتوجب على الممارس للعصيان المدني ان يكون هادئا مالكا لزمام نفسه حتى يتحقق هدفه، فعندما يمسك به رجال الأمن والشرطة، لابد أن يكون مطيعا لهم تماما، يبتسم في وجوههم على الدوام، ولو سبوه أو شتموه؛ يجادلهم بالتي هي أحسن، أو يسكت؛ فان السكوت ابلغ من الكلام. إذا اقتادته مفرزة الشرطة إلى المعتقلات ومراكز الشرطة، لا يقاوم؛ لان المقاومة عنف والعنف ينافي جوهر العصيان المدني!

العصيان المدني هو أن يعاهد ممارس اللاعنف نفسه وضميره ووطنه أن يتحمل المسؤولية بمفرده، وكأنه وحده في الساحة، ثم يحاول أن يقنع الآخرين بقضيته.

لقد كان "لـ غاندي السبق في اتخاذ العصيان المدني كوسيلة لتحدي القوانين الجائرة؛ متخذًا أسلوب اللاعنف. وجاء من بعده "مارتن لوثر كينج"، في إطار حركته المطالبة بالحقوق المدنية؛ فسار على خطا غاندي مبتكرًا أسلوبي المسيرة والجلوس الاحتجاجيين، لخلق موقف متأزم مستحكم يُرغم الحكومات والأنظمة على فتح باب النقاش والتباحث".

ولكن هل ينجح أسلوب العصيان المدني في دول تحبو في طريق الديمقراطية كالدول العربية والاسلامية؟

هناك من يرى أن اللجوء إلى العصيان المدني في الدول العربية والإسلامية، كأسلوب متطور لإنجاز المطالب وتحصيل الحقوق، ما هو إلا ضرب من الخيال، وكلام سفسطة لا معنى له..، فأنت تستطيع أن تتحدث عن العصيان المدني، في دولة مثل أمريكا وكندا وسويسرا، وما شاكلها من دول العالم المتحضر، ولكن لا يمكن أن تتحدث عن مفهوم العصيان المدني، فضلا عن تطبيقه في الدول "المتوحشة" كالدول العربية، إلا إذا كنت مجنونا؛ لان استخدام الأسلوب اللاعنيف راسخ في الدول التي تكون معاييرها أسس العمل الديمقراطي، وحقوق الإنسان وحرياته، وتحكيم مبادئ العدالة والمساواة الاجتماعيين، أما في الدول العربية الجامدة أو الزاحفة نحو الديمقراطية، لا يمكن اللجوء إلى هذا السلوك على سبيل الحقيقة، لأجل استبدال الحكومة المستبدة أو تغيير منهجها، لان قيام نهج العصيان المدني غير العنيف في هذه الدول يحتاج إلى ترويج ثقافة اللاعنف والعصيان المدني عند الجماهير والسلطة على حد سواء، وهو ما زال في طور التكوين، يموت حينا، ويفيق آخر.

وبالتالي، فإن الكلام عن العصيان المدني في بلد عربي أو إسلامي، مثل مصر أو تونس، أو في الخليج العربي التقليدي، كلام قد لا يمت للواقع بصلة، كيف تستطيع حشود مطوقة بطوق من رجال الأمن والشرطة ومكافحة الشغب، وعيون الجواسيس والمخبرين السرين، ولا تملك إرادتها في التعبير عن غضبها إلا في نطاق أسلوب العصيان المدني، أن تغير نظام مستبد مسلح، لا يفهم إلا منطق القوة والعنف والسلاح؟

هل من عاقل، كان يتحدث عن إزاحة حكومة البعث العراقية سابقا، أو عزل رأس النظام، بطريق اللاعنف والعصيان المدني اللاغاضب!؟. كلام اقرب إلى الهزل من الجد. قال متحديا كل الضمير العالمي "لقد وصلنا إلى السلطة بقوة السلاح، ومن أراد انتزاعها منا عليه أن يجرب حظه بقوة السلاح" هذا ما ذكره طارق عزيز!.

وخلاصة أنصار هذا الرأي: أنهم يؤيدون عمل العصيان المدني، كأسلوب حضاري في إحداث التحولات السياسية، ولكن الحديث عنه في إطار الدول العربية حديث غير واقعي، إذ لم تترسخ قيم السلام واللين، ولا الإستراتيجية اللاعنفية في المجتمعات العربية.

بينما يرى آخرون أن العصيان المدني، هو الطريق الأمثل للمقاومة السلمية، وهو الأسلوب الأسلم والأضمن لتغيير النظام حتى لو كان في دول متوحشة كالدول العربية بل أن ذلك اكثر جدوائية لان هذه الانظمة الشمولية تعيش وتتغذى بالعنف والعنف المضاد، واللاعنف المضاد او العصيان المدني يشلها ويجعلها عاجزة ومكشوفة على حقيقتها. كما ان أساليب المقاومة اللاعنفية تتطور مع التطور الحضاري لسلم القيم الانسانية والثقافة والمعرفة، لأن قوة الاستبداد ووحشيته تنبع من تنامي الجهل والفوضى وبدائية المجتمع المدني.

وبدراسة بسيطة لوقائع التاريخ العربي المعاصر تثبت لنا ان الثورات المسلحة والعنيفة تحولت الى حركات رعب ارهابية انقلبت على الشعوب المضطهدة لتتحول الى انظمة شمولية كاسرة التهمت حقوق الشعوب واجسادهم وثرواتهم.

لان المقاومة العنيفة بالتجربة هي من أفشل المقاومات على الإطلاق، بدليل أنها ظلت استثناء من قاعدة عامة، هي قاعدة السلم العام.

وبالتالي، لا يشترط في قيام العصيان المدني في الدول العربية والاسلامية أن تكون المعارضة والحكومة قد اتفقتا على العمل اللاعنفي، لكي نقول بصحة الممارسة من الناحية النظرية، فسواء اقتنعت الحكومة والمعارضة معا، أو أحدهما دون الآخر، فان اللاعنف السياسي، لابد أن يكون الخيار المتجدد للشعب في كسب الحقوق والحفاظ عليها، لأنه يعبر عن قوة المجتمع المدني وقدرته على تنظيم نفسه وتنامي المعرفة السياسية وتطور الحس العقلاني في مقابل تدني الاحساسات العاطفية والحماسية والانفعالية.

وهو يدل على تجذر المبادئ للمطالبين بحقوقهم وتفاعلهم العميق مع اهدافهم بالتحمل والصبر الطويل دون ان يضحوا بها لصالح الوسائل والغايات الوقتية.

فصاحب الهدف الأسمى يكون دائما على هبة الاستعداء للتضحية بنفسه، ولا يسمح لها في لحظة ضعف ما أن يؤذي أحد ولو بالكلام، وهذا ما دل عليه سلوك الأنبياء والصالحين من هذه الأمة الذين آثروا الموت من أجل المبادئ.

يرى الإمام السيد محمد الشيرازي أحد اكبر دعاة منهج اللاعنف واللاعنف السياسي أن كافة الرسالات السماوية كانت لها سياسة واحدة، وهي سياسة اللين واللاعنف والغضّ عن إساءة الآخرين. فهذا هابيل عندما هدّده أخوه بالقتل أجابه مباشرةً بجواب يكشف عن التزامه بسياسة السماء الداعية إلى اللين واللاعنف، حيث قال: (لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِط يَدِي إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) المائدة 28. وعندما أمر الله تعالى نبيه موسى (ع) ووصيّه هارون (ع) بالذهاب إلى فرعون الطاغية، أوصاهما بالتزام اللين واللاعنف إبّان دعوته إلى الله، فقال عزّ من قائل: (فَقُولاَ لَهُ قَوْلا لَيِّناً) سورة طه: 44. وكذلك التزم نبيّ الله عيسى(ع) بقانون اللين واللاعنف في دعوته، بل كان يوصي أتباعه به حيث قال لبعضهم يوماً: « ما لا تحبّ أن يفعل بك فلا تفعله بأحد وإن لطم خدّك الأيمن فأعط الأيسر».

وحول قدرة العصيان المدني والانتصار باللاعنف وتحقيق الاهداف دون حدوث اضرار كبيرة خاطب الامام الشيرازي الفلسطينيين في ثورتهم التي سميت بثورة الحجارة: إن التظاهرات الحالية لو تحولت إلى مظاهرات سلمية لكانت أقرب إلى النجاح، لأن الاستناد إلى قوة الروح أمضى وأنفع.

ولكي يتحول العصيان المدني الى حركة حقوقية احتجاجية شعبية ناجحة لابد من التأكيد على المبادئ التالية:

- اعتبار العصيان المدني حق طبيعي من حقوق الشعب، لا يمكن التنازل عنه بأي صورة من الصور.

- اعتبار العصيان المدني وسيلة حضارية من وسائل التحول السياسي والمعارضة في البلاد العربية والإسلامية.

- ضرورة تعميم العصيان المدني عبر نشر ثقافة اللاعنف وتنميط ادواتها واساليبها، وعبر تحولها الى قيم ثقافية راسخة في المجتمع والجماعات الكبيرة والصغيرة والاسرة.

- ضرورة توعية المواطن وخصوصا المواطن العربي بأهمية العصيان المدني كوسيلة من وسائل المطالبة بحقوقه المشروعة وممارسة المعارضة السلمية، وإخراجه من دائرة اللامبالاة والخوف وعدم تحمل المسؤولية.

- ضرورة قيام مؤسسات المجتمع المدني بتدريس الاسلوب وتعميمه على كافة طبقات المجتمع وبالتالي مما قد يحول قوة المجتمع او الاحتقانات الداخلية والنفسية الى قوة ايجابية وليس تخريبية عنيفة.

- ضرورة تفهم السلطات العربية والإسلامية لأهداف العصيان المدني، وأخذها بنظر الاعتبار، والتأكيد على تحقيقها، لان يضمن مصالح البلاد حيث يتم احتواء التخريب والعنف والفوضى الناجمة عن الاحتقانات الغوغائية.

- ضرورة تطوير أدوات العصيان المدني واستحداث أساليب جديدة لأداه على وجهه الصحيح.

- ان يجعل المجتمع المدني العربي والاسلامي العصيان المدني هو الاسلوب الاوحد في ممارسة المعارضة، مع ضرورة وجود مواثيق بين الدول الاسلامية بالخصوص تمنع ضرب وقمع التجمعات السلمية.

- الاستفادة من الثورة التكنولوجية الجديدة المتمثلة بالانترنت من اجل تعميم اساليب العصيان المدني ودعم الشعوب المقهورة التي تمارسه عبر نشر قضاياها واهدافها.

واخيرا نجد ان اللاعنف هو فلسفة قادرة على تحريك قوة العقل وطاقة المعرفة وبالتالي القضاء فوضوية الجهل والامية المتلبسة بالعنف والانفعال والحماس واللعب بالأهواء والعواطف.

العصيان المدني هو حركتنا المستقبلية التي تنبع من خياراتنا الذاتية نحو بناء مجتمع ديمقراطي تعددي قائم على حقوق المواطنة والمشاركة والعدالة.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث

www.shrsc.com

** نشر في شبكة النبأ المعلوماتية – آيار 2005 / ربيع الثاني 1426

اضف تعليق