هل ندرك في خضم أي زلزال تكنولوجي نعيش، وانعكاسات ذلك على العالم ككل؟ أن ما يضاعف من أثر ذلك الزلزال على العراق هو حالة العزلة والانكفاء الذي كان العراق يعيشه حينما بدأت آثار هذا الزلزال التكنولوجي بالظهور مع بداية الألفية الثالثة بعد الميلاد...
“ التكنولوجيا هي أقوى محركات التغيير هديراً” الفن توفلر Alvin Toffler يجهل معظم الناس أن التاريخ الأنساني المعروف (المدون) والذي لا يتجاوز سبعة آلاف سنة لا يمثل سوى أقل من 1-3 بالمئة من تاريخ ظهور الأنسان الذي قدرته الموسوعة البريطانية ب 350 الف سنة، فيما قدرته بعض الدراسات بأكثر من ثلاث ملايين سنة.
واذا علمنا أن البدايات الأولى (وليس الناضجة) لظهور الاجتماع البشري والمجتمعات الزراعية كانت قبل حوالي 10 آلاف سنة (فقط) وكانت على أرض العراق، فأن هذا يعني أن الأنسان أحتاج لمئات آلاف السنين-أو أكثر- ليصبح كائن أو حيوان اجتماعي بحسب قول أرسطو. غير أن هذا التطور(البطيء) بمنظورنا اليوم قد تم تعويضه بصورة مدهشة منذ بدايات الثورة الصناعية الى اليوم.
يقول كوزرزويل Kuzrzweil الذي درس تاريخ التطور التكنولوجي الإنساني أن هذا التطور بات يسير بمتوالية أسّيّة exponential وليس خطية بحيث أن التغيير التكنولوجي في نهاية القرن الحادي والعشرين سيعادل 20 ألف سنة من معدل تطور البشرية وليس 100 سنة فقط!! بعبارة أخرى فأن من يعيشون لنهاية القرن الحالي سيختبرون تغييرات تفوق بمئتي مرة تلك التي عرفها جيل نهاية القرن العشرين.
واذا جاز لنا التعبير فأن الأجيال المعاصرة اليوم ستبدو مثل الذي يركب عربة يجرها حصان مقارنة بالجيل القادم الذي سيكون ممتطياً زعنفة الصاروخ. فهل يمكن تصور سرعة وحجم تأثير ذلك التغيير على حياتنا الاجتماعية والاقتصادية؟ هل يمكنكم أن تعقلوا أن أسلافنا قد احتاجوا الى 2.4 مليون سنة للسيطرة على النار واستخدامها للطبخ، في حين لم يحتج آباؤنا الى أكثر من 66 سنة للانتقال من أول رحلة بالطائرة الى الهبوط على القمر بصاروخ!!
يقول عالم المستقبليات فولر Fuller في كتابه المسار الحرج أن الأنسان أحتاج الى 250 سنة فقط (من 1500-1750 م) ليضاعف حجم المعلومات التي أنتجها خلال 1500 سنة (أي من السنة 1-1500 م)، وأنه أحتاج الى 150 سنة فقط (لغاية 1900 م) ليضاعف حجم المعلومات التي أنتجها وراكمها، أما بعد ذلك فقد باتت المعرفة الإنسانية تتضاعف بمتواليات أسّية أو هندسية وليس عددية. حين هبطت مركبة أبولو على القمر في عام 1969 عُدّ ذلك فتحاً تكنولوجياً غير مسبوق. لكن ما يجهله كُثُر هو أن سعة ذاكرة أبسط موبايل بين أيدي أطفالنا اليوم تتفوق على سعة ذاكرة كومبيوتر أبولو بمليون مرة، وأن هذا الموبايل له قدرة على أنجاز العمليات بسرعة تفوق بمئة الف مرة سرعة كومبيوتر أبولو البدائي. ولكم أن تتصوروا هنا ليس فقط سرعة التطور التكنولوجي، بل مدى تأثيره على حياتنا.
فاذا كان ذلك الكومبيوتر(البدائي) لمركبة أبولو قادراً على أيصال الأنسان للقمر، فالى أين يمكن أن يوصلنا ما بات يعرف اليوم بالكومبيوتر الخارق supercomputer والذي تضاعفت قدراته العملياتية بأكثر من 100 ألف مرة خلال العقدين الماضيين فقط؟! تصوروا معي أن لدينا من التكنولوجيا حالياً ما يمكننا من أن نفعل أشياء أكثر تطوراً وأبهاراً من الهبوط على القمر بمئة الف مرة!! وللمهتمين بسرعة التطور التكنولوجي الحالي أنصح برؤية الشكل البياني المذهل لذلك التطور والذي نشره ماكس روزر Max Roser من جامعة أوكسفورد على موقع المنتدى الاقتصادي العالمي World Economic Forum في شباط 2023.
براءات اختراع
لقد تضاعف عدد براءات الاختراع المسجلة في أمريكا فقط من 62000 عام 1980 الى 600 الف في عام 2020. وقد صاحب هذا التطور التكنولوجي الهائل تطور مماثل في الاقتصاد العالمي.
فاعتماداً على دراسة معدلات النمو السكانية، فأن العلماء يقدرون بأن الاقتصاد العالمي قد تضاعف مرة واحدة خلال ربع مليون سنة من ظهور الأنسان (المعروف للآن)،أي خلال الانتقال من العصر الحجري القديم للعصر الحجري الحديث، وهو تاريخ ظهور الزراعة في وادي الرافدين. لكن بعد ذلك أستمر الاقتصاد الزراعي بالنمو بمعدل الضعف كل 900 سنة لغاية ظهور الآلة البخارية.
بعدها بدأ الاقتصاد بالنمو المضاعف كل 15 سنة. أي بمعدل 60 مرة أسرع مما كان ينمو خلال الاقتصاد الزراعي. وطبقاً لتقديرات روبن هانسن Hanson فأن هذا المعدل سيتضاعف أُسّيّاً خلال عصر الذكاء البشري الخارق super human intelligence وبمعدل مرة واحدة أسبوعياً، أو كل ثلاث أشهر في أسوأ تقدير. فهل ندرك في خضم أي زلزال تكنولوجي نعيش، وانعكاسات ذلك على العالم ككل؟ أن ما يضاعف من أثر ذلك الزلزال على العراق هو حالة العزلة والانكفاء الذي كان العراق يعيشه حينما بدأت آثار هذا الزلزال التكنولوجي بالظهور مع بداية الألفية الثالثة بعد الميلاد وهو ما سيتم تناوله تفصيلاً في قادم المقالات.
اضف تعليق