أننا نشهد اليوم ذات الصراع بين الفوضى التي يمثلها نظام ما بعد الاحتلال في 2003 وبين قوى النظام والتقدم التي تريد عراقاً مختلفاً كلياً عما مضى. بين بُنى ومؤسسات وشخصيات وأدوار تأسست في الماضي وباتت مستهلكة وغير قادرة على أداء أدوارها التقليدية...
لطالما وُجهت لي أسئلة، واشتركت في نقاشات خاصة وعامة، عن سبب هذه الفوضى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بل وحتى الايدلوجية التي يشهدها العراق ويعاني منها العراقيون يومياً. وبما أنني من جيل ربما يكون من أكثر الأجيال التي عايشت وشهدت تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية وتكنولوجية خلال مراحل حياته المختلفة، حتى بات يمكن تسميته «الجيل غير المستقر»، فيمكنني أن أؤكد فعلاً أن ما نشهده في حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية يمثل معاناة وألم كبيرَين لكنهما كما أعتقد معاناة وآلام ما قبل الولادة. أنها فوضى نهاية التاريخ ليس بالصيغة الفوكايامية -نسبةً الى فوكاياما- بل بالصيغة الهيغلية -نسبةً الى هيغل- فكيف ذلك؟
حينما رأى هيغل، الفيلسوف الألماني المعروف، نابليون ممتطياً فرسه غازياً بلاده في عام 1806 قال قولته الشهيرة «رأيت الإمبراطور، روح العالم على حصان…أنه لأمرً رائع حقاً أن ترى مثل هذا الشخص يهيمن على العالم».
لم يكن هيغل عميلاً لنابليون أو فرنسا، بل كان مؤمناً أن أفكار التنوير والثورة الفرنسية هي التي ستنهي التاريخ القديم المظلم للعالم وتفتح تاريخاً جديداً أساسه التقدم والعلم. لذا لم يرَ في نابليون سوى وكيل للتغيير الذي سيعم العالم.
فنهاية التاريخ عند هيغل تعني بدأ تاريخ جديد افضل للبشر. لكن فوكوياما كان ينظر الى نهاية التاريخ في كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، سنة 1992، بأنها حقبة انتصار الرأسمالية ونهاية كل الآيدلوجيات الأخرى المنافسة لها.
أما في العراق فيبدو أن الفوضى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والآيدلوجية التي نعيشها ونشعر بها حالياً، ما هي الا مقدمة أو اعلان لنهاية حقبة تاريخية امتدت لأكثر من قرن منذ تأسيس العراق الى الآن. لم يكن تأسيس دولة العراق في 1921 على يد المحتل الإنكليزي مجرد حدث سياسي عابر، بل كان أعلاناً واضحاً عن تدشين تاريخ عراقي جديد يختلف جذرياً عما سبقه، وأن كانت جذوره ممتدة في الماضي وناهلة منه.
لم يكن الانتقال السياسي من نظام الولايات العثمانية الثلاث الى نظام الدولة الملكية الدستورية سوى قمة جبل الجليد، غير أن غاطسه كان أعمق بكثير. لقد شهد المجتمع العراقي تغييرات جذرية في بنيته الاجتماعية الأساسية وأقصد بها علاقات القوة الآيدلوجية والاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية. فعلى الصعيد العسكري مثلاً أنتقل العراق من نظام القوة العشائرية الى القوة العسكرية والشرطية للدولة. وهذا النظام أنشأ طبقة الضباط الذين باتوا ينافسون-بل ويتفوقون أحياناً- على قوة شيوخ العشائر.
وفي المجال الاقتصادي نشأت طبقة من الموظفين أو الأفندية كما يسميهم الوردي وملاك الاراضي في المدن بما ينافس طبقة الشيوخ. وعلى الصعيد الآيدلوجي بدأت الحركات القومية والأممية والعلمانية تنافس الآيدلوجيات الدينية، وبدأ الصراع بين العمامة والسدارة بالظهور للعلن. كما بدأ تشكل جديد للوعي السياسي وأن كان مضطرباً. يقول الوردي عن تلك الفترة» كان تنازع العراقيين سابقاً تقليدياً ينشأون عليه من الطفولة كالتنازع بين الطوائف والقبائل والمدن…أما الأحداث الجديدة-يقصد بعد تشكل الدولة- فقد صار مبدئياً غير مرتبط بالانتماءات التقليدية».
وظهر القطار والسيارة والهاتف…الخ في حياة العراقيين بطريقة زادت من تواصلهم ومن شبكات علاقاتهم الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية. باختصار فأن عراق ما بعد 1921 بات مختلف تماماً عن عراق ما بعده. لقد كان العراق آنذاك يشهد ولادة جديدة جعلته وشعبه مضطربَين بين الفوضى التي يمثلها النظام التقليدي العشائري، والنظام الذي تمثله الدولة الحديثة.
أننا نشهد اليوم ذات الصراع بين الفوضى التي يمثلها نظام ما بعد الاحتلال في 2003 وبين قوى النظام والتقدم التي تريد عراقاً مختلفاً كلياً عما مضى. بين بُنى ومؤسسات وشخصيات وأدوار تأسست في الماضي وباتت مستهلكة وغير قادرة على أداء أدوارها التقليدية (كالدولة، والشيخ، والمثقف، والمدرسة) بسبب التغيير الحاصل في الحياة وبين بُنى ومؤسسات وعلاقات آخذة بالتشكل اليوم ولا نعرف مدى نجاحها أو فشلها.
لقد تعرض العراق الى صدمتًين كبرى تزامنتا في آن واحد جعلتا شعبه، وثوابته، وعلاقاته، وقيمه، ومعاييره تترنح بشدة كاشفةً عن عدم قدرتها على مواجهة عواقب هاتين الضربتين أو هذين الزلزالين المتزامنَين وهما الاحتلال والتطور التكنولوجي.
ولعل أهم مظاهر هذَين الزلزالين تمثلت في هدم علاقات القوة التقليدية التي قام عليها المجتمع العراقي لمدة طويلة. مثلاً ينقل لنا الوردي في كتابه لمحات من تاريخ العراق الحديث مقولة للشاعر معروف الرصافي تجسد هذا التحول في علاقات القوة نتيجة الاحتلال الأنكليزي بسبب محاباته لبعض العراقيين المتعاونين معه بحيث جعلت أحد الشواكين» من يبيعون الشوك» يصبح من كبار الملاك والأغنياء لأنه كان جاسوساً للأنكليز فكافأوه بمنحه أراضٍ كثيرة.
فكم شواكاً بات ملياردير في يومنا هذا، وما تأثير ذلك على موازين القوة الاجتماعية؟ وكم من مستضعفين استقووا، وكم من أقوياء استضعفوا اليوم؟ كم طبقة سًحقت، وكم طبقة تشكلت؟ كم قوة اندثرت، وكم ميليشيا ظهرت؟ بإيجاز: ماهي تأثيرات هذين الزلزالَين على العراق، وهل فعلاً نحن ازاء تشكل عراق جديد يختلف عن الذي عرفه آباؤنا؟
اضف تعليق