وهذا انتقاد آخر وجه للكتاب خلال فعالية الإطلاق، أسجله هنا على الهامش لما له من أهمية في دعم مقولات الكتاب وأهدافه، بما يتوافق مع لوحة الغلاف التي تحمل رسالة عامة شعبية، وليست أكاديمية، وإن تسمّت أو تجنست بعض مواده بأنها دراسات، الكتاب ليس أكاديميا، ولا يصح...

من صلب النقاش للكتب المطبوعة، لا بد من أن يكون الغلاف حاضرا بما يمثله من علاماتية وهوية بصرية للكتاب، مدرجة ضمن أبجديات التلقي الأوليّ التي تستدرج القارئ، فتستحوذ الصورة على اهتمامه، لأنها أول ما يحثّ عقله على التفكير، والحدس، والتخمين، بما يتصل بموضوع الكتاب وعنوانه، وهذه الثلاثية: الغلاف، واسم الكتاب، والموضوع اشتغل عليه باحثون كثيرون، وأنوه إلى ما قامت به الباحثة الفلسطينية مريم المصري في كتابها "جماليات الفن التشكيلي في الخطاب الأدبي الشعري والسردي" (دار دجلة ناشرون وموزعون، الأردن، 2023)، وأفردتُ له فقرة خاصة للمناقشة في كتابي الجديد "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور" (دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2025). ناهيك عما قيل سابقا من إدراج أغلفة الكتب ضمن دراسة النصوص المحيطة التي تتوجه إلى دراسة ما يحيط بالنص قبل الدخول إلى بنيته الأساسية ضمن تقنيات مناهج النقد النصي، وخاصة البنيوية والسيميائية.

أعود إلى هذا النقاش مرة أخرى بعد مناقشة كتاب "الثقافة الاستعمارية والألم البشري" للكاتب والأكاديمي والاقتصادي د. نبهان عثمان غانم يوم السبت 31/8/2024، إذ حضر الغلاف ولم يحضر، وتعرض له البعض في الندوة، ولم يتم التحديق الفكري والنقدي فيه جيدا، ولم أفطن شخصيا لهذا الأمر على الرغم من أنني كنت، بحكم أنني محرر الكتاب، على اطلاع منذ البداية على اختيار الفنان رمزي الطويل (مصمم الغلاف) للوحة لتكون غلافا، وتمت مناقشتها مع المؤلف، وبعد تردد واختيار غيرها، عدنا ثلاثتنا إلى هذه اللوحة التي تختصر برمزيتها الهائلة موضوع الكتاب. وقد أهملتُ الحديث عن اللوحة، وما تمثله للكتاب، ما يعد انتقادا لعمل المحرر.

رسم اللوحة عام 1810 م الفنان الفرنسي فيليب بيران (1780- 1865)، وتمثل عملية اغتيال القائد الفرنسي كليبر خليفة نابليون في مصر، عام 1800 م على يد الشاب سليمان الحلبي، وكان عمره حينها (24) عاماً، انتقاما للشعب المصري الذي أعمل فيه الجنرال الفرنسي كليبر الفظائع من أجل إخماد ثورة المصريين، فقتل منهم الكثير. 

إذن تمثل اللوحة موضوع الكتاب وازدواجية العنوان القائمة على ثقافة الاستعمار والاحتلال وما يتبعها ويتصل بها من إجرام وألم بشري، كنتيجة طبيعية لأي استعمار على مدى التاريخ. إذ لا تنحصر الدلالة هنا بموضوع اللوحة، إذ تصبح علامة على كل ما يشبهها من أحداث تقع ضمن المعنى العام للوحة. ومن ناحية ثانية تمثل نزعة المقاومة لدى الشعب الرازح تحت الاحتلال، وظاهرة مقاومة الدخيل، بكل الطرق المتاحة، للحصول على التحرر والاستقلال، وهذا ما يؤكده كتاب الدكتور نبهان عثمان.

كما تبين الحادثة؛ حادثة مقتل كليبر على يد الحلبي عنجهية المستعمر، ومحاكماته الجائرة بحق المقاومين، وإخضاعهم إلى منطق مختل هو صنعه، ووضعه، بحيث تصبح الضحية مجرمة في نظرها، وهذا ما فعله المستعمر الفرنسي بالاستيلاء على جثمان الحلبي، حيث إن الفرنسيين ما زالوا إلى الآن "يحتفظون به في متحف الإنسان بقصر شايو في باريس، مع جمجمة سليمان الحلبي في علبة من البلور مكتوب تحتها: جمجمة مجرم"، كما أن الكيان الغاصب يتخذ من اعتقال جثامين الأسرى والمقاومين الفلسطينيين والاحتفاظ بها استراتيجية واضحة، ويرفض الإفراج عن جثة أي مقاوم فلسطيني، مع فارق، ربما ليس بسيطا هو أن الفرنسي يمثّل بالجثث ويضع الجماجم في متاحف للتفاخر الاستعماري المقيت بها، أما الكيان الغاصب فيودعها في مقابر الأرقام إمعانا في الإذلال والتهميش والنفي، ومع أن السلوك مختلف ظاهريا إلا أنه يحمل الدلالة الاستعمارية ذاتها.

هذه الازدواجية الاستعمارية القائمة على العنصرية، والاستهانة بالآخر، وحق التمتع بأرضه والسيطرة عليه وقتله، ويظل في منأى عن المحاسبة والمقاومة، وتبرئة نفسه، هذه الثقافة ما زلنا نراها ماثلة، يقوم عليها الاستعمار البشع حاليا، بصوره المختلفة، سواء أكان احتلالا عسكريا كما في فلسطين على سبيل المثال، وكما حدث في دول أمريكا اللاتينية وفي دول أفريقيا، أو كان احتلالا اقتصاديا أو هيمنة ثقافية غير مباشرة، وقد كان لذلك حضوره في كتاب الدكتور نبهان غانم. 

تعيدني لوحة الغلاف أيضا والتفكير مليا بدلالاتها وامتداداتها الفكرية إلى الجزائر التي نجحت قبل سنوات عام (2020) باستعادة (24) جمجمة تعود لقادة المقاومة الجزائرية من أصل أكثر من (5000) جمجمة ما زالت تحتفظ بها فرنسا في متحف أطلقت عليه "متحف الإنسان"، وهذه مفارقة أخرى، وهو المتحف نفسه الذي يضم جمجمة الشهيد سليمان الحلبي، ويضم هذا المتحف "18 ألف جمجمة للثوار المسلمين الذين قطعت [فرنسا] رؤوسهم". كما جاء في موقع الجزيرة نت.

إذاً، اللوحة تمثل المركزية الأوروبية، وتختصر تاريخا طويلا من الاستعمار، وتختزن فيها الكثير من الدلالات التي تحكم العلاقة بين المستعمر، وكل ما يمثله من ثقافة تقوم على حق إفناء الآخرين واستعبادهم ونهب ثرواتهم، وحق الاستيلاء على تاريخهم وأجسادهم، ومصادرة حقهم في سرد رواياتهم. وهذه بالمجمل مقولات الدكتور نبهان عثمان غانم في كتابه "الثقافة الاستعمارية والألم البشري" الذي قالها على طريقته بعيدا عن الغوص في المرجعيات الثقافية النظرية، وهذا انتقاد آخر وجه للكتاب خلال فعالية الإطلاق، أسجله هنا على الهامش لما له من أهمية في دعم مقولات الكتاب وأهدافه، بما يتوافق مع لوحة الغلاف التي تحمل رسالة عامة شعبية، وليست أكاديمية، وإن تسمّت أو تجنست بعض مواده بأنها "دراسات"، وهذا ربما له وقفة أخرى.

إن الكتاب ليس أكاديميا، ولا يصح أن نقول إنه يفتقر إلى الإطار الأكاديمي المعروف والمستقر. وأورد في هذه المناسبة قول للباحث والمفكر المصري عبد الوهاب المسيري صاحب المؤلفات الفكرية والسياسية المهمة في بابها وتأثيراتها، لا سيما فيما يتصل بدراساته للصهيونية. يقول في انتقاده النهج الأكاديمي: "الأكاديمي شخص عديم الخيال، يُلْحِقُ بحثَه بقائمة طويلة من المراجع، ويشرح أطروحته بطريقة مملة". 

وقد تجنب الدكتور نبهان أن يكون كتابه مملا، أكاديميا بحثيا لا روح فيه، لأن السياق لا يريدها ولا يبحث فيها، إنما ما يريده هو تجليات هذه الثقافة وثمارها على أرض الواقع، وتبصير الناس عامة بها، دون الغرق في الأكاديميات والكليشيهات" الممجوجة، وقد ساعده على ذلك عدة عوامل أهمها ثلاثة ذكرتها آنفا أعود إلى ذكرها ملخصة لأهميتها: اللوحة، وعرض الفكرة بأسلوب علمي مبسّط، وإثارة المتلقي وجذبه عاطفيا وفكريا.

اضف تعليق