إن عدم رد إيران يحمل معه مخاطر وتداعيات إستراتيجية ليس أقلها أنّ (إسرائيل) ستكون في صورة الطرف الذي إستعاد قوة الردع بشكل واضح تجاه أعدائه، ومثلما يفهم الخبراء والمختصين في مجال الأمن والدفاع أنّ الردع يكون ناجحاً عندما يمتنع الطرف الآخر من شن هجوم عسكري خشية إنتقام الطرف الأول...
من الطبيعي جداً أن صناع القرار عندما يواجهون ظروف بالغة الدقة والحساسية وهم بصدد إتخاذ خيار على مستوى إستراتيجي أو دفاعي يعمدون إلى وزن الخيارات المتاحة أمامهم بعناية وإستكشاف ما تنطوي عليه من فرص وتحديات ومخاطر، وغالباً ما تكون بعض هذه الخيارات غير متوقعة في نظر الجمهور أو مخيبة للآمال، لكنها في الحقيقة حصيلة تحليل مُعمق للتداعيات المحتملة. بالتأكيد هذا ما تواجهه القيادة السياسية والعسكرية في إيران وهي بصدد التفكير في كيفية الرد على الهجوم (الإسرائيلي) في طهران الذي أفضى إلى إستشهاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس (إسماعيل هنية).
إن عدم رد إيران يحمل معه مخاطر وتداعيات إستراتيجية ليس أقلها أنّ (إسرائيل) ستكون في صورة الطرف الذي إستعاد قوة الردع بشكل واضح تجاه أعدائه، ومثلما يفهم الخبراء والمختصين في مجال الأمن والدفاع أنّ الردع يكون ناجحاً عندما يمتنع الطرف الآخر من شن هجوم عسكري خشية إنتقام الطرف الأول. ولا جدال أنّ الردع (الإسرائيلي) تعرض إلى تشكيك كبير في جدواه ومعناه بعدما هاجمت إيران (إسرائيل) بأكثر من 300 مقذوف، ما بين صاروخ كروز وصاروخ بالستي وطائرات مُسيرة، تم إطلاقه تجاهها في شهر نيسان رداً على القصف (الإسرائيلي) لمقر القنصلية الإيرانية في دمشق.
وحتى مع قدرة (إسرائيل) على إسقاط الكثير منها إلا أن النظام الدفاعي (الإسرائيلي) تعرض إلى إجهاد كبير بفعل حجم الصواريخ المهاجمة وما كان لها أن تسقطها لولا المساعدة التي أبدتها الولايات المتحدة ودول أخرى.
وعلى الرغم من إسقاط أغلب هذه الصواريخ، إلا أنّ تمكن بعضها من الإفلات من النظام الدفاعي وسقوطها في قواعد (إسرائيلية) كان قد أوصل الرسالة بوضوح وهي أنّ (إسرائيل) ليست منيعة وتعرضت لهجوم مباشر بشكل لم يسبق له مثيل منذ سنوات، وأن بإمكان إيران أن تعيد الكرة مرة أخرى وبطاقة أكبر طالما أنها تملك القدرة على إيصال صواريخها هناك.
حاولت (إسرائيل) إستعادة قدرة الردع بشكل كامل، أي إرغام خصومها على عدم مهاجمتها خوفاً من العواقب، من خلال تنفيذ هجمتها الصاروخية على قاعدة أصفهان، والتي أرادت بها إيصال رسالة لإيران أن (إسرائيل) بإمكانها تخريب منشآت الطاقة النووية إن تجرأت مرة ثانية على مهاجمتها، مع ذلك، إستمر الردع (الإسرائيلي) يخضع لضغط شديد من أطراف أخرى مثل إستمرار هجمات حزب الله وإطلاق طائراته المُسيرة على مناطق شمال (إسرائيل) وهو أمر دفع وزير الخارجية السابق (يائير لابيد) إلى القول "إن ما يحترق ليس شمال إسرائيل ،،، بل الردع الإسرائيلي".
وإزاء هذه الأوضاع المضطربة، سيما بعد هجمة الطائرة المُسيرة التي تعرضت لها من طرف أنصار الله الحوثيين، إتخذت (إسرائيل) قرارها القاضي بتوسيع دائرة عدم الإستقرار الإقليمي من خلال العمل على تكثيف سياسة الإغتيال لكبار القادة سواء في لبنان أو إيران وبشكل علني ومباشر، ما أعطى الإنطباع أنّ (إسرائيل) تتعمد تصعيد التوتر إلى مستوى حافة الهاوية وبما يُهدد بجر المنطقة إلى حرب شاملة أملاً في أن يمتنع خصومها عن مهاجمتها. وقد يبدو الأمر وكأن (إسرائيل) لا تكترث بالحرب الشاملة أو لا تتخوف منها بينما الحقيقة أنّها بتأزيمها الوضع الإقليمي تدفع شركائها الأوروبيين والولايات المتحدة إلى الإصطفاف بجوارها بشكل أقوى من السابق خوفاً من إنفلات الأمور عن السيطرة، وهذا الوقوف بحد ذاته يُوفر نوعاً من المناعة لها في مواجهة خصومها.
من جهتها، تفهم إيران أنّ (إسرائيل) بإستهدافها العلني لـ(هنية) في طهران إنما أرادت إخراج صراعها معها من حالة الظل، وهي السمة التي ميزت حروبهما طيلة السنوات الماضية، إلى حالة تبادل الضربات بشكل مباشر، وهي حالة تُتيح (لإسرائيل) حرية الحركة والفعل تحت حماية أميركية بينما تحرم إيران من رفاهية الإنكار والإفلات من المسؤولية، ولهذا يفهم صناع القرار في إيران أنّ اللحظة الإستراتيجية للرد بشكل مباشر على الهجوم (الإسرائيلي) الأخير، وبذات الشكل السابق، تبدو غير مواتية لأسباب عدة.
أولاً تعيش الولايات المتحدة حالياً موسماً إنتخابياً شديد التنافسية ويسعى كل حزب إلى كسب ود اللوبي (الإسرائيلي) لترجيح كفته في الفوز، وفي ظل الإستقطاب السياسي غير المسبوق فإن أي هجوم إيراني على (إسرائيل) سيفتح الباب واسعاً أمام الإدارة الأميركية الحالية التي تحاول الحفاظ على فوز الحزب الديمقراطي بمنصب الرئاسة، لتقديم دعم واسع (لإسرائيل) ولن تبخل عليها بأي مساعدة أو إسناد عسكري بدليل أنها وافقت مؤخراً على صفقة مبيعات أسلحة لها بقيمة (20) مليار دولار.
ثانياً تعيش الحالة الفلسطينية في غزة مأزقاً شديد الصعوبة مع تعثر المفاوضات الخاصة بإطلاق الرهائن وإيقاف حالة الحرب العدوانية (الإسرائيلية)، وهناك مساعي لتجديد المفاوضات خلال الأيام القادمة وبالتالي أن أي هجوم إيراني سيعمل على عرقلة الوصول إلى إيقاف نهائي أو مؤقت لهذا العدوان. وحتى مع وجود إحتمال ضعيف بالوصول إلى نتيجة مُرضية للفلسطينيين بخصوص التفاوض إلا أن الشيء المؤكد أن الرد الإيراني سيعمل على قتل هذا الإحتمال الضعيف.
ثالثاً، كما قال (نابليون بونابرت) ذات مرة "عندما يرتكب عدوك أخطاء لا تُقاطعه، بل دعه يستمر في أخطائه"، وهو ما ينطبق على وضع (إسرائيل). إن العدوان والمجازر التي إرتكبتها عملت على إضعاف صورتها أمام المجتمع الدولي وكشفت الحرب عن حجم الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيين، وبالتالي أنّ أي هجوم إيراني سيقلب الصورة وتتبدل أوضاع الضحية والجزار وستكون (إسرائيل) أمام أنظار الدول الأوروبية، التي تبرّمت من أفعالها بشدة، على أنّها ضحية الهجوم الإيراني الذي يستهدف إزالتها من الخارطة.
إن صورة المشهد الجيوسياسي المضطرب توحي وكأنّ هدف (بنيامين نتنياهو) من مهاجمة إيران في عقر دارها وإغتيال الشهدي (هنية) إنما يُراد به تحقيق أمر أساسي وهو جر إيران إلى الرد بشكل مباشر على (إسرائيل)، وربما يكون قد وضع في حساباته أن تعرض البنى التحتية إلى أضرار فادحة سيكون أمراً مقبولاً في سبيل حرب يريدها بشدة كونها ستعمل على إظهار (إسرائيل) أنها الطرف المعتدى عليه وهو ما سيعمل على تحسين صورتها أمام بعض منتقديها ويُزيد من تماسك حكومته.
إنّ ما يمنح هذا الإحتمال الإعتبار الكافي أنّ (نتنياهو) نفسه أفاد بشدة من التجربة السابقة عندما هاجمت إيران (إسرائيل) بأكثر من 300 صاروخ. إذ كانت (إسرائيل) آنذاك تعيش وضعاً مزرياً بسبب من نفور المجتمع الدولي منها، إلا أن الهجمة الإيرانية أعادت ترميم صورتها جزئياً مع الدول التي قاطعتها، وبالتالي هو يسعى إلى تكرار ذات التجربة.
لكن من جانب آخر، حتى مع المنافع التي ينطوي عليها الإحتمال أعلاه بالنسبة (لإسرائيل)، لا يُمكن التغافل عن حقيقة أنّ الهدف الأسمى بالنسبة لها والذي تتضائل أمامه بقية الطموحات هو إستعادة قدرتها على الردع، أي تضرب خصومها دون أن يكون لهم القدرة على الرد، وهذه مسألة مثلما تعمل على تحقيق "إطمئنان أمني" تنطوي أيضاً على إعتبارات معنوية.
وضمن هذا المنظور تعلم (إسرائيل) أنّ اللحظة الإستراتيجية في صالحها وليس في صالح إيران، وهذا ما يدفع القيادة السياسية في إيران إلى التفكير المطول في كيفية تقرير شكل وحجم الرد الذي يبدو في الوقت الراهن غير مطروح على طاولة الخيارات لأن الوضع القائم غير مواتي سيما في ظل إنشغال الحكومة الإيرانية بعد الإنتخابات الأخيرة بترتيب البيت الداخلي وهو ما سيدفع بتأجيل الرد حتى إشعار آخر.
اضف تعليق