حاولت إسرائيل من خلال روايتها الحربية، المشكوك في إجزاء كثيرة منها، أن تقدم عرضاً إعلامياً للقوة الجوية يؤكد على قدرتها في إدارة عمليات مشتركة ومتكاملة بين القوات المتواجدة على الأرض وسلاح الجو وأن تُبّرز فاعلية منظومتها الدفاعية التي قالت أنها إعترضت (90%) من صواريخ حزب الله...

خلال الأيام القليلة الماضية، تصاعد التوتر بين إسرائيل وحزب الله اللبناني إلى مستوى غير مسبوق منذ إنطلاق عملية (طوفان الأقصى) في تشرين الأول الماضي، وقد تجسد هذا التصاعد في تبادل الضربات العسكرية بينهما بشكل متزامن لم يحدث من قبل.

إذ في الوقت الذي شن فيه حزب الله سلسلة هجمات على مواقع إسرائيلية مختلفة، بادرت إسرائيل بدورها بقصف مكثف على مناطق جنوب لبنان وتحديداً ضد مواقع حزب الله، ومع إنتهاء هذه العمليات ورغبة كلا الطرفين بعدم التصعيد أكثر من اللازم أخذت بوادر الإطمئنان تعود إلى المنطقة وتشيع جواً من الإرتياح من أنها ما تزال بعيدة عن الحرب الشاملة وإن كانت إحتمالات تجدد التوتر وتبادل التصعيد ما تزال قائمة.  

إنّ ما أثار إهتمامنا في هذا التصعيد الأخير هو الخطاب الإسرائيلي الذي قدّم توصيفاً لمعركته بطريقة تبدو غير معقولة في أجزاء كبيرة منها كونها لا تنسجم مع بعض الحقائق العسكرية والسياسية خصوصاً ما يتعلق منها بنوايا حزب الله من وراء هجومه. 

بالنسبة للحزب، أعلن في خطابه قيامه بإطلاق عدد من صواريخ كاتيوشا، وهي ذخائر غير موجهة أي لا تصيب أهدافها بدقة، بشكل مُكثف بهدف إغراق (القبة الحديدية) بعدد من المقذوفات بحيث يصعب عليها ملاحقتها جميعاً، وهذه الإستراتيجية تُعرف بإستراتيجية الإغراق أو التشبع (Saturation). بعدها قام مقاتلي الحزب بإطلاق عدد من الطائرات المُسيرة بهدف إحداث خرق في (القبة الحديدية)، وقد بلغت أعداد الصواريخ والطائرات ما يزيد عن (320) وإستهدفت على حد قول الحزب (11) موقعاً إسرائيلياً وأن أغلب هذه المواقع تقع ضمن المنطقة الوسطى، وليس شمال إسرائيل. 

ضمن هذا المنظور، إن رواية حزب الله تبدو معقولة من زاوية أنه يمتلك الكثير من الصواريخ ومن مختلف الفئات، وقد إستخدم في هذه العملية الحد الأدنى من ذخيرته، ولم يكن هدف العملية تصعيد الموقف إلى مستوى الدخول في حرب شاملة بقدر ما أراد إنجاز رد إعتباري للحزب بعد إغتيال القيادي (فؤاد شكر) في بيروت، وأن طبيعة الرد الإعتباري حكمتها معطيات الوضع الإقتصادي الهش في لبنان وحالة الإنقسام السياسي فيه، وهذه محاذير حرص الحزب على عدم تخطيها، لكن المشكلة في الرواية الإسرائيلية التي تبدو متعارضة مع حقائق جغرافية وعسكرية وسياسية. 

من ناحيتها، أعلنت إسرائيل أنها نشرت ما يُقدر بـ(100) طائرة مقاتلة في ضربة إستباقية مكّنتها من إجهاض عملية كُبرى كان يعدُ لها حزب الله. وأن مُخطط الحزب كان يقضي بإطلاق أكثر من (6000) آلاف صاروخ على إسرائيل، ما يعني أنّ الحزب كان يُخطط لإشعال حرب يصعب إطفائها. وهذه الرواية تبدو غير منسجمة بالمرة مع حسابات حزب الله للوضع الداخلي من أنّ لبنان يُعاني من ضائقة إقتصادية، وهو ما يدفعه إلى عدم المخاطرة بالدخول في حرب كبرى. 

إن الزعم بأنّ (100) طائرة إستهدفت (40) موقعاً ودمرت الآلاف من منصات إطلاق الصواريخ يعني أنّ المُخطط كان يتجاوز مسألة الرد الإعتباري إلى مستوى الدخول في حرب شاملة، ولو كانت فعلاً إسرائيل قد وجدت أنّ حزب الله قد نصب هذه الكمية من الصواريخ، فمن غير المعقول أن تكتفي بتدميرها دون ملاحقة المزيد من الأهداف بما في ذلك داخل بيروت نفسها، وبالتالي الإدعاء بوجود الآلاف من منصات الصواريخ يتناقض مع خيار الرد المحسوب الذي تبناه حزب الله. 

الأكثر من ذلك لم تنشر إسرائيل صور أو مقاطع فيديو حية لإنطلاق هذا العدد من الطائرات من قواعدها، وأنّ ما نشرته بعض مواقعها الإعلامية هو عملية إستهداف لطائرة مسيرة قيل أنها تعود لحزب الله، ومقطع فيديو آخر يظهر طائرة (F-35) وهي تتزود بالوقود جواً، وأنّ مقطع الفيديو الأخير هذا بحد ذاته يُثير الكثير من الشكوك. 

مثلما هو معلوم أن طائرة (F-35)، وهي من الجيل الخامس بإمكانها أن تقطع مسافة تصل إلى حدود (600) ميل في الساعة، وهي لا تتزود بالوقود إلا بعد أن تقطع مسافة لا تقل عن (1200) ميل، ما يعني أنّها تكون بحاجة للتزود بالوقود كل ساعتين من الطيران المستمر بكامل طاقتها. ومثلما نعلم أن المساحة الطولية لإسرائيل، في أطول نقاطها من أقصى نقطة في صحراء النقب إلى أبعد منطقة في شمال إسرائيل وهي (سهل الحولة-Hula Valley) لا تزيد عن (260) ميل، ما يُقارب (420) كم، وعليه فحتى لو إنطلقت الطائرة من أقصى جنوب إسرائيل إلى جنوب لبنان وإستهدفت مواقع لحزب الله وعادت إلى قواعدها، فلن تكون بحاجة للتزود بالوقود. 

ولو إتخذنا تجربة الحرب على غزة كمثال لإختبار مصداقية مقاطع الفيديو، سنجد أنّ إطلاق المقذوفات من قبل مقاتلات سلاح الجو الإسرائيلي تجاه غزة كان لا يستغرق أكثر من بضع دقائق ويرجع هذا في المقام الأول إلى صغر مساحة الكيان ومجاورة غزة لإسرائيل. أنّ ضيق مساحة الكيان الإسرائيلي، الذي لا يتجاوز عرضه (60) ميلاً، سمح لبعض طائراته التي تنطلق من قواعد قريبة من منطقة بئر السبع، وتبعد مسافة (25) ميلاً عن غزة، بإلقاء قنابلها وصواريخها بسرعة طيران تصل إلى (300) ميل في الساعة دون الحاجة حتى إلى دخول المجال الجوي لقطاع غزة، سيما مع إمتلاك سلاح الجو لقذائف موجهة بدقة وصواريخ يتم توجيهها عبر الأقمار الصناعية، وبالتالي جعل هذا الحال من وقت الطيران للمقاتلات الإسرائيلية قصير جداً ولا يتطلب سوى دقائق. 

ولو قارنا الحال مع مناطق جنوب لبنان سنجد أنّ التفاوت في السياق ليس كبيراً جداً. إن أبعد قاعدة لسلاح الجو الإسرائيلي وهي قاعدة (أوفدا-Ovda) تبعد عن ميناء (إيلات-Eilat) (25) ميل، ما يعني أن المسافة ما بين أبعد قاعدة جوية إسرائيلية ومناطق جنوب لبنان تبلغ بحدود (225) ميل، أما أقرب قاعدة للبنان في شمال إسرائيل فهي قاعدة (رامات ديفيد-Ramat David) والتي تقع جنوب شرق حيفا. وبإفتراض أن طائرة (F-35) إنطلقت من قاعدة (اوفدا)، وهي الأبعد في إسرائيل، فبإمكانها أن تصل إلى جنوب لبنان وتعود دون أن تستهلك نصف كمية الوقود. 

ومثلما نعلم أنّ طائرات (F-35) إنما تتواجد في قاعدة (نفاطيم-Nevatim)، شرق منطقة بئر السبع وجنوب مدينة (الخليل)، وأن المسافة بين القاعدة ومنطقة (بنت جبيل) في جنوب لبنان التي إستهدفتها إسرائيل بهجومها الجوي الأخير لا تزيد عن (210) كم، أي أقل من (130) ميل، وهي مسافة أقصر بكثير عن قاعدة (اوفدا).

يبدو أن إسرائيل من خلال نشر مقاطع الفيديو المشكوك في صحتها وزعمها بنشر (100) طائرة مقاتلة أرادت تضخيم مستوى العملية الحربية التي نفذتها لإظهار حجم إستعدادها وجهوزيتها القتالية وقدرتها على إدارة عملية عسكرية كُبرى، والأكثر من ذلك أنّها حرصت على القول أنها نفذت هذه العملية الإستباقية دون الحاجة إلى تدخل أو مساعدة أطراف شريكة مثلما حصل في الهجوم الإيراني شهر نيسان الماضي عندما قدمت لها الولايات المتحدة ودول أخرى في المنطقة مساعدة لوجستية وحربية في صد الصواريخ الإيرانية، وبالتالي أرادت إسرائيل إظهار صورة مُختلفة عن السابق تُبين فيها إمكاناتها في الإعتماد على مواردها الذاتية القادرة على مواجهة التهديد دون مساعدة خارجية على الرغم من أنّ الولايات المتحدة أقرت بأنها قدمت معلومات إستخبارية مهمة عن طريق الأقمار الصناعية حول الإستعدادات المسبقة التي كان يجريها حزب الله وتحركات جنوده قبل الهجوم على إسرائيل. 

ومن المحتمل أن الولايات المتحدة قدمت أكثر من هذه المعلومات الإستخبارية وأنها ساعدتها في إدارة بعض العمليات العسكرية سيما أن إثنان من حاملات الطائرات متواجدتان في المنطقة، (يو أس أس أبراهام لنكولن) و(يو أس أس ثيودور روزفلت)، وبإمكان هذه الحاملات أن تدير عمليات حربية وتقدم دعم لوجستي من خلال نقل البيانات وتبادل المعلومات مع الجانب الإسرائيلي. 

أضف إلى ذلك، أن رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة (تشارلز براون)، زار المنطقة قبل إنفجار التوتر بيوم واحد وأجرى سلسلة لقاءات مع قادة عسكريين في إسرائيل والأردن ومصر، ما يعني أنّه كان هناك إستعداد وتهيأ أميركي مُسبق، وهذا لم يكن بمعزل عن تقديم مساعدة ذات قيمة لإسرائيل.  

بإختصار، حاولت إسرائيل من خلال روايتها الحربية، المشكوك في إجزاء كثيرة منها، أن تقدم عرضاً إعلامياً للقوة الجوية يؤكد على قدرتها في إدارة عمليات مشتركة ومتكاملة بين القوات المتواجدة على الأرض وسلاح الجو وأن تُبّرز فاعلية منظومتها الدفاعية التي قالت أنها إعترضت (90%) من صواريخ حزب الله، وان كل هذا جرى بالإعتماد على موادرها الذاتية دون أي مساعدة خارجية. 

اضف تعليق