في زيارة الأربعين يشعر الإنسان بالانتماء ولا يشعر بالاغتراب والغربة، بل يشعر بأنه في المكان الصحيح بالحياة، ويشعر بهويته الحسينية، وأنه منتمٍ إلى الإمام الحسين، لكن الذين لا يوجد عندهم تواصل مع القضايا المعنوية ومع أهل البيت يشعرون بالاغتراب وضياع الهوية وفقدان الذات، وبأنه منغمس في نوع...
يعيش العالم اليوم مجموعة من الأزمات النفسية، مثل حالات القلق والاكتئاب، فكيف يمكن لتجمع بشري كبير في الزيارة الأربعينية المليونية، أن يساهم في بناء الصحة النفسية وإنقاذ الإنسان من الضياع؟
الإنسان كائن له جسد، وهو كذلك باعتبار انه نفس وروح كائن اجتماعي له تموجات معنوية، يحتاج إلى الارتباط بالآخرين من خلال علاقات وارتباطات اجتماعية، بالإضافة الى ارتباطه بهذا العالم والكون، وارتباطه الاعمق والشمولي بالله سبحانه وتعالى.
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت 53.
لذلك عندما ينعزل الإنسان عن الله سبحانه وتعالى والعالم، وعن الآخرين، ولا تكون عنده علاقات اجتماعية إيجابية مستدامة، فإن هذا الإنسان يُصاب بالأمراض النفسية، ولهذا كانت التجمعات البشرية دائما وأبدا، -حتى في رؤية العلم الحديث- هي أساس لصحة الإنسان جسديا ونفسيا.(1)
فالإنسان الذي يريد أن يكون صحيحا وسليما نفسيا ولا توجد عنده أمراض نفسية، مثل القلق والاكتئاب والخوف وعدم الثقة بالنفس، لابد أن يكون عنده ترابط مع المجتمع، وتكون له علاقات اجتماعية سليمة.
خصوصا التجمعات المعنوية القائمة على الإيمان والتقوى والمبادئ، وبالخصوص مبادئ أهل البيت (عليهم السلام)، مثل زيارات اهل البيت (عليهم السلام) وبشكل خاص زيارة الأربعين نظرا للتجمع البشري الكبير الذي يعد علاجا كبيرا شافيا ومفيدا للإنسان، عقائديا ودينيا وبالخصوص اجتماعيا ونفسيا، فهي عملية استشفاء للإنسان، وتصحيح نفسه وذاته، واستئصال الأغلال الموجودة في داخله (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الأعراف 43، ويشفي من أمراضه الأخلاقية والنفسية.
مظاهر اختلال الصحة النفسية
عالم اليوم، بهذا التقدم التكنولوجي والتطور المادي الكبير، يمكن ملاحظة وجود اختلالات كبيرة، لأن هذا التقدم الهائل جدا من الناحية المادية والتكنولوجية، لم ينظر إلى علاقات الإنسان الاجتماعية وعقائده ونفسه ومعنوياته.
وأدى هذا الأمر إلى ظهور حالات كبيرة من القلق والخوف من المستقبل، وعدم الشعور بالاطمئنان في الحاضر، هناك شعور بالضياع والخوف مما هو آتٍ وخصوصا بعد جائحة كورونا، وانعكس ذلك على كثير من الناس بالإصابة بأمراض جسدية مثل القولون العصبي، وأمراض القلب، وضغط الدم وامراض الجهاز المناعي.
الشعور بالحزن والتعاسة
ومن المظاهر الأخرى الاكتئاب والشعور بالحزن والتعاسة، حيث تلاحظ الإنسان مهموما مكتئبا، غير مرتاح، ينهض من فراشه صباحا وهو غير سعيد، بل تعيس، فيذهب إلى عمله من دون التزام، ولا يمتلك الرغبة والشغف في الحياة، دائما تجده مكتئبا ويزداد اكتئابا.
يبحث عن السعادة في القضايا المادية ولا يجدها، لأنه لا يدرك بأنه لا يذهب وراء الجوهر الأساسي الناتج عن عملية بناء السعادة عند الإنسان،
القرآن الكريم يقول: (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)، آل عمران 154.
الأرق من علامات الهمّ
الاكتئاب هو شعور الإنسان بالضياع، وبعدم السعادة بل الشعور المستمر بالحزن، وهذا الحزن يسمى بالتعاسة، حيث يستولي الشعور بالفشل وبفقدان الأمل ويكون الإنسان مغموما من المواقف والمشكلات التي مر بها، وهذا يسمى الغمّ، وجعلكم (أمنةً نعاسا) بمعنى ينام مطمئنا متى يرغب، وعندما ينام لا يعاني من الأرق.
اما الأرق وهو ومن علامات الهمّ فهو القلق حيث يكون الإنسان مشغول البال، ولا يستطيع النوم لأنه غير مرتاح نفسيا، (قد أهمتهم أنفسهم)، يعاني من الهم، لأنه يعاني القلق والشك والحيرة، مما يخبّئ له المستقبل، وهذا بدوره يؤدي إلى الغم.
القرآن الكريم يذكر في آيات مفردات الغم والهم، الغم هو الاكتئاب، ولذلك نلاحظ أن الإنسان المكتئب ينام كثيرا، والهم هو القلق، وهو عكس الغم، فمن يعاني من الهم لا يستطيع النوم، ويحدث عنده أرق.
وفي الآية القرآنية: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) يونس 62. الخوف يعني الهم والقلق من المستقبل، الحزن يعني الغمّ والاكتئاب.
عدم الشعور بالانتماء للعالم
من المظاهر التي نلاحظها اليوم الاغتراب وعدم الشعور بالانتماء إلى العالم، ينهض الإنسان صباحا فيشعر بنفسه بأنه منفصل عن هذا العالم، يشعر بالتوحد والتوحش، ويشعر بأنه غريب في عالمه هذا، يحدث ذلك بسبب فقدان الانتماء إلى العالم.
ضياع الهوية وفقدان الذات
ضياع الهوية من المظاهر أيضا، فلا توجد هوية عند الإنسان المعاصر، ولكن في زيارة الأربعين، يشعر الإنسان بالانتماء، ولا يشعر بالاغتراب والغربة، بل يشعر بأنه في المكان الصحيح بالحياة، ويشعر بهويته الحسينية، وأنه منتمٍ إلى الإمام الحسين (عليه السلام).
لكن الذين لا يوجد عندهم تواصل مع القضايا المعنوية ومع أهل البيت (عليهم السلام) يشعرون بالاغتراب، وضياع الهوية وفقدان الذات، أي يشعر بأنه منغمس في نوع من الضبابية، فهو مجرد إنسان ضبابي غير موجود في الحياة، وهو ليس في مكان حقيقي، وفي بعض الأحيان ينظر إلى نفسه وكأنه وهم.
الانحراف العقائدي والأخلاقي والجنسي
وهذه من مظاهر اختلال الصحة النفسية أيضا، فأساس كل انحراف عقائدي هو قضية نفسية، فالإنسان عندما تكون نفسه مدمَّرة ينحرف عقائديا، ويصبح إنسانا عدميا، ولا يشعر بالوجود، فينحرف، لذلك من أهم مقدمات عملية الانحراف العقائدي هي القضية النفسية، نعم هناك جوانب علمية ومعرفية في هذه القضية، ولكن الأساس يكمن في مشكلات نفسية وفقدان الاستقرار النفسي عند هذا الإنسان، لذا فهو يحتاج إلى المعالجة النفسية، مثل الانحراف الجنسي، فهو خلل أو شذوذ نفسي يؤدي إلى الانحراف الاخلاقي.
انهيار العلاقات الاجتماعية
في الانحراف الأخلاقي يصبح الكذب صدقا والصدق كذبا، والخطأ يكون صحيحا والشرير يكون خيّرا، والأمين يكون جبانا، والخائن شجاعا، هذه كلها أمور تدل على مظاهر الاختلال النفسي، بالإضافة إلى انهيار العلاقات الاجتماعية في عالم اليوم، عالم الحداثة وما بعد الحداثة الذي أصبح يعاني من التفكك.
ولذلك نحن نحذر من الغزو الثقافي، لأن هدفه هو تفكيك العلاقات الاجتماعية، فالبعض انحرفوا بعد أن تأثروا بموجة الحداثة والغزو الثقافي، فانهارت علاقاتهم الاجتماعية، وأصبحوا ضد المجتمع ويشتمونه لأنهم تثقفوا وتحلّوا بأخلاق الغرب، وتخلوا عن أخلاقهم الفطرية الدينية الإسلامية. ولكن مثل زيارة الأربعين توجد معطيات عظيمة في تقوية العلاقات الاجتماعية وفي مقاومة الانحرافات القادمة مع الغزو الثقافي.
أسباب اختلال الصحة النفسية
الأسباب ذكرنا بعضها ضمنا عندما تطرقنا للمظاهر، ولكن نتعمق فيها أكثر وهي:
السبب الأول: انفصال الإنسان عن الله تعالى
ويحدث هذا الانفصال ظاهرا وباطنا، وبالتالي غياب جوهر العلاقة التي تربط الإنسان بالعالم، فالاغتراب، وهو نوع من انفصال الإنسان عن الواقع، فيعيش في الوهم، فالإنسان الذي ينفصل عن الله سبحانه وتعالى ولا ينتمي إليه سبحانه، ظاهرا وباطنا، فظاهرا يعني أن البعض منتم ومرتبط بالله ظاهرا لكنه منفصل باطنا، أو إنه في الظاهر غير مرتبط لكنه يدعي انه في الباطن مرتبط بالله سبحانه وتعالى، ولكن الانتماء الحقيقي يحتاج الى الظاهر والباطن معا، اي ان العبادات والإيمان، كلاهما مطلوب.
الاغتراب في عالم ما بعد الحداثة
كذلك كل السلوكيات الدينية، والأحكام الشرعية والوظائف الشرعية، لذلك فإن انفصال الإنسان عن الله سبحانه وتعالى ظاهرا وباطنا، يجعل الإنسان منعزلا عن العالم، وينفصل عن الناس، وعندما يصبح الإنسان منعزلا عن العالم فإنه لا ينتمي لهم، ويصبح مريضا نفسيا، وهذا يسمى بالاغتراب، والاغتراب مفهوم حديث ظهر مع ظهور الحضارة الحديثة.
وقد استخدم علماء النفس وعلماء الاجتماع هذا المصطلح (الاغتراب)، وبالنتيجة كنا نذكره بطريقة أخرى، لكن نذكره هنا بمعناه الشائع الذي يدل على أن الإنسان غير منتم وليس عنده ارتباط بالحياة وبالمجتمع، وليس عنده أي شعور بوجوده، ومهما تضع حلولا وعلاجات يبقى السبب الرئيس هو انفصال الإنسان عن الله سبحانه وتعالى.
هذا هو الأساس، أي شيء آخر تضع له علاجا لا يكون مجديا ولا نافعا، لأن الإنسان خُلِق كي يكون عبدا لله سبحانه وتعالى، العبودية لله فقط، ولا يمكن للإنسان أن يكون مستقلا مطلقا بذاته، ويقول أنا وحدي أكتفي بذاتي ولا أحتاج إلى الخالق، هذا النوع من البشر يصبح مريضا، وبالفعل هؤلاء الملحدون وغيرهم والذي لا يؤمنون عمليا والمنافقون هؤلاء مرضى نفسيا، تراهم ممتلئين بالرذائل، من الكذب والخيانة والأمراض الأخرى كافة.
عن الإمام علي (عليه السلام): (أعظم البلاء انقطاع الرجاء)(2)، أي عندما يفقد الإنسان رجاءه بالله سبحانه وتعالى، انقطاع الرجاء يعني انفصال الإنسان عن العالم وهذا بلاء كبير، وهو أعظم بلاء بمختلف الأشكال، والمشكلة النفسية هي الأساس، وقد ذكرت بأن الانحراف العقائدي والمشكلة العقائدية تأتي من مشكلة نفسية.
السبب الثاني: انفصال الإنسان عن القيم الفطرية
وهي القيم التي تقدم له التوجيه السليم في الحياة، يعني مثلا حين يتعلم الإنسان مناهج ثانية، غير مناهج الدين الصحيحة التي تأتي من أهل البيت (عليهم السلام)، قد يذهب الإنسان نحو منهج غربي أو مناهج أو أيديولوجيات ثانية، ويأخذ مبادئه من هذه المناهج، هذا بالنتيجة يقول بأن القانون الوضعي هو الأهم، ولا يقول القانون لله، فهذا الإنسان يرتبط بالقانون الوضعي الذي وضعته تلك الدولة التي يعيش فيها، وفي كل فترة قد يغيرون هذا القانون لأنهم يكتشفون خطأ هذا القانون.
أما القانون الإلهي فهو مرتبط بالقيم الفطرية، أي مرتبط بالعدل والخير والحق، وبالقيم الفطرية الأخرى، فإذا انفصل الإنسان عن هذه القيم سوف تصيبه مشكلات نفسية، لماذا لأن الانفصال يولد مشكلات اجتماعية واقتصادية، وبالنتيجة يؤدي أيضا إلى مشكلات نفسية.
السبب الثالث: انفصال الإنسان عن المجتمع
يحدث هذا حين ينفصل الإنسان اجتماعيا عن الآخرين، ويحدث لديه الانعزال الفردي، فيعيش في عالم منعزل ولا تكون لديه علاقات اجتماعية، ويمكن أن نلاحظ هذا الامر، ومنها ظهور فئة كبيرة من الناس سواء كانوا في مجتمعاتنا أو في مجتمعات أخرى، يعيشون حالة من الفردية.
الفردية هو مذهب غربي، تؤكد عليه الرأسمالية ومذاهب ما بعد الحداثة، وهي تهدف إلى عدم تقييد الحرية الشخصية للإنسان، وتؤكد على فردية الإنسان وهو لا يحتاج أن يأخذ قيمه من المجتمع، ولا ينخرط في ثقافة المجتمع، بل هو يؤسس ميوله الفكرية ويؤسس ذلك لنفسه، وحيث ينشغل الإنسان بنفسه وملذاته ويتمتع ويلهو ويختار أفكاره، ويختار دينه، ويختار جنسه، ويختار كل شيء يخصه دون ارتباط بالآخرين.
فيصبح الإنسان منعزلا فرديا، ويتخلى عن كونه إنسانا اجتماعيا، وهذا يقع في صميم المرض النفسي، فنلاحظ اليوم الإنسان الفردي، وهو الذي يعيش الفردية المحضة، يكون إنسان بلا التزام بالقيم، والأخلاق، ملتزم بنفسه، بنفسه فقط، فإذا احترق العالم، وإذا قُتِل الناس أو ماتوا، فهو لا يبدي أي اهتمام ولابد أننا لاحظنا ذلك في المجتمع، فهناك كثيرون يريد أحدهم أن يعيش هو فقط، ولذلك يعد هذا المذهب خطيرا، وهو يؤدي إلى الاغتراب، واختلال الهوية النفسية، واختلال مبادئه وعلاقاته الاجتماعية.
لذلك فإن زيارة الأربعين هي عملية ترسيخ وتركيز العرف والهمّ الاجتماعي للإنسان، فالإنسان اجتماعي دائما، ويدخل في مجتمع له قيم حيث يتوحد الناس جميعا في قيم إلهية أخلاقية مشتركة، وبالنتيجة فإن هذا التآلف يؤدي إلى وجود الإنسان الاجتماعي الصالح الذي يستطيع أن يعيش في صحة نفسية صالحة.
السبب الرابع: المادية الحديثة
فقد أغرقت المادية الحديثة الإنسان بما هو موجود اليوم من ماديات تتطور استهلاكيا، لدرجة أنها أغرقت الإنسان في الاستهلاك، وباللذة المفرطة والمتع الزائفة، بحث أفرغته من كل شيء معنوي حقيقي، ومن كل شيء داخلي حقيقي، من الإيمان والتقوى والقضايا المعنوية والأخلاقية والفطرية.
فأصبح الإنسان فارغا، لأن الهدف أصبح يتجسد في الاستهلاك واللذة والمتعة، وكلها أشياء زائفة ومؤقتة، فاللذة المادية مؤقتة، والشيء الدائم يتجسد في اللذة المعنوية، أي أن اللذة المعنوية تبقى دائما وأبدا عند الإنسان في داخله، أما اللذة المادية فإنها تزول مع مرور الوقت.
الحقيقة الأساسية التي تغيب عن البعض، أن اللذة الحقيقية المادية مرتبطة باللذة المعنوية، مثل أكل المال الحلال أو أكل المال الحرام، فالإنسان الذي يأكل المال الحرام لا يلتذ مطلقا، لا ماديا ولا معنويا، أما الذي يأكل المال الحلال ويلتزم بالأحكام الشرعية، فهذا الإنسان يلتذّ ماديا ومعنويا. فيشعر بأن اللقمة التي تنزل من فمه إلى بطنه لذيذة طيبة، وجميلة، أما الشخص الآخر الذي يأكل الحرام، فإنه يأكل الخبيث، لذلك فإن المادية الحديثة توسعت من خلال الاستهلاك الكبير والسلع الكثيرة، ومن العمران المبالغ به من الأبراج والعمارات، والسيارات، والأشياء الكثيرة الموجودة في الحياة، وهكذا نجد الناس مستغرقة في عملية الاستهلاك، فأفرغت الإنسان وجعلته لا شيء، مجرد كائن يعتلف (همّه بطنه).
التوازن بين المادي والمعنوي
وعن الإمام علي (عليه السلام): (فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً)(3)
فالإنسان الذي يتغذى ماديا ولا يتغذى معنويا، فإنه يصبح مشوها، لأنه لابد أن يكون هناك توازن أو بين الحالة المادية وبين الحالة المعنوية، فالحالة المادية يجب أن تكمل الجانب المعنوي، أو أن يصبح الإنسان مشوها، لأنه لا يتحلى بالتكامل والتوازن بين المادي والمعنوي.
لذلك نلاحظ أن الإنسان المستهلِك يُصاب بأمراض جسدية صعبة، بسبب هذا الإسراف والتبذير فيؤدي إلى إنهاك الإنسان جسديا. لذلك نلاحظ اليوم ظهور الكثير من الأمراض الجسدية، بالإضافة إلى الأمراض الروحية والنفسية، فهذه هي إحدى المشاكل النفسية التي أدت إلى هذا الاختلال النفسي الموجود في عالم اليوم المضطرب.
السبب الخامس: الغرق في المعلومات التضليلية
إن التكنولوجيا الموجودة اليوم أغرقت الإنسان والمجتمعات بالمعلومات التضليلية والزائفة، فجعلت الإنسان يعيش عالما من الأوهام، التي تزرع فيه الضلالة والقلق، يعني هذه التكنولوجيا هي في الواقع أغرت الإنسان، وجعلته يشعر بالتفوق وبالعظمة، ويشعر بالقوة، بعيدا عن الله سبحانه وتعالى وعن الدين، وعن المجال الديني.
فهذا الإغراء والوهم جعل الإنسان يعيش في عالم الأوهام وليس في عالم الحقيقة أو في العالم الحقيقي، ولهذا أصبح هذا الإنسان بعيدا عن الواقع، لأن الواقع نفسه ليس الواقع الحقيقي، لهذا أصبحت اليوم وسائل التواصل الاجتماعي، هي المصدر المغذي للناس بالمعلومات، وليس القرآن الكريم، ولا الروايات الشريفة.
لذلك فإن هذه المعلومات التضليلية جعلت الإنسان يعاني من الأمراض النفسية، وأصبح يعيش الضلالة والقلق، فهذه الحيرة والشك الذي يزداد عند الإنسان يؤديان به إلى القلق، لأنه لا يعرف حقيقة الأمور، وليس لديه يقين، وليس له علم بالمستقبل فيخشاه ويعيش القلق والهمّ.
وللبحث تتمة في نتائج اختلال الصحة النفسية، ودور زيارة الأربعين في بناء الصحة النفسية...
اضف تعليق