قررت السلطات اليابانية رفع جميع حاويات الأوساخ من الأماكن العامة وعدم استخدامها سواءً في الشوارع، أو الفنادق، أو المطارات على الرغم مما يسببه ذلك من ازعاج للناس، وما يتطلبه ذلك من انضباط عالي من كل أفراد المجتمع، لكن السلامة أهم من الراحة...

حدد الاقتصاديون أربعة عوامل أساسية أدت لخلق المعجزة اليابانية في ثمانينات القرن الماضي هي: الاستفادة من التغير التكنولوجي الذي حصل آنذاك واعتماد أحدث التكنولوجيات في الصناعة والخدمات، تراكم رأس المال حيث معدلات ادخار عالية واستثمارات حكومية ضخمة، وتحسين كم ونوع ومهارات العاملين، زيادة معدلات التجارة الخارجية. مع هذا أعتقد جازماً أن كل ذلك ما كان ليحصل لولا وجود ثقافة اجتماعية تساعد وتسهّل التفوق التكنولوجي والمادي. 

فالاقتصاد لا يمكن أن ينمو أذا لم تكن هناك بيئة سياسية ملائمة. كما أن البيئة السياسية المتطورة والمتمثلة في ديموقراطية حقيقية لا يمكنها أن تعمل في ظل تخلف ثقافي يجعل من الهويات والمعايير غير المدنية كالعشائرية، والطائفية، والعسكريتارية، وقبول الفساد وسواها من المظاهر الثقافية المتخلفة عُلوية على المعايير والقيم الاجتماعية الخادمة للتطور والنمو وقبول التغيير. 

من هنا اعتمدت المعجزة اليابانية على بُنية تحتية ثقافية أتاحت مثل هذا التطور. أن أهم أشكال استطاعت الثقافة اليابانية مواجهته وحلٌه في رأيي هو عصرنة التراث بدلاً من تتريث المعاصرة. هذه الإشكالية التي تعاني منها كثير من الثقافات العربية والإسلامية تمت مواجهتها وحلها بشجاعة وأبداع راعى أصالة التراث الياباني وحاجته في نفس الوقت للتعامل بمرونة وذكاء وأبداع مع متطلبات التكنولوجيا الغربية الحديثة. لقد تجنب اليابانيون بعد تجربتهم المريرة المعروفة في الحرب العالمية الثانية تجنب فخ المبالغة في شرقيتهم وأو المبالغة في غربنتهم. 

فمثلاً تم الإبقاء على الرمزية المعنوية والتراثية للإمبراطور لكن تم تجريده (دستورياً) من كل السلطات والصلاحيات التي تجعل منه الهاً لا يمكن مناقشته أو تاجاً من التيجان التي هي فوق القانون. وظلت التراتبية عنصراً مهماً في الثقافة الاجتماعية، لكن ليس للحد الذي يخلق حكومة أو سلطات أو نظام شمولي لا يحترم خيارات الشعب. كما تم توظيف معايير الاعتزاز بالأسرة في الثقافة اليابانية لصالح أدارة العمل في المؤسسات التي بات الولاء لها والمحافظة على سمعتها، سمة مميزة للعاملين اليابانيين ومؤسساتهم.

وفي موضوع الاعتزاز الشديد بالهوية اليابانية وكبرياءها وتفوقها المعنوي تم استبدال التفوق العسكري الكاسح بالتفوق التكنولوجي والاقتصادي الشامل. باختصار فقد تم استثمار الثقافة الاجتماعية اليابانية التقليدية لتخدم متطلبات الحداثة والتحول التكنولوجي. 

لقد أنتقد اليابانيون كل عوامل الثقافة التي أدت بهم الى كارثة الحرب العالمية الثانية، وفي نفس الوقت تحملوا مسؤولية ما حصل ولم يحمّلوه للأميركي المحتل فقط على الرغم من الجريمة النووية التي أرتكبها الأمريكان ضدهم، والتي هي بلا شك من أكبر جرائم التاريخ، وكان ممكناً التذرع بها والبكاء على أطلالها لتبرير عدم نفض غبار الماضي والانطلاق للمستقبل. ألا أن تحمل المسؤولية، وعدم التنصل عنها، هو أحد أعمدة الثقافة اليابانية التقليدية التي تم استثمارها في عصرنة اليابان.

لقد استعرضت في المقال السابق بعض مظاهر الثقافة الاجتماعية اليابانية وانعكاساتها السلوكية والحضارية وسأتابع في هذا المقال وما سيليه مظاهر أخرى أمكنني التقاطها للاستفادة منها واستثمارها لتطوير مجتمعاتنا وبلداننا.

السلامة والأمان

سلامة الناس وأمنهم مهمة في كل العالم الذي زرته، لكنها في اليابان تكتسب خصوصية وأهمية عالية لم أشاهدها في أي مكان. سأضرب بعض الأمثلة التي شاهدتها. ففي عام 1995 وضع إرهابي ياباني قنبلة في حاوية أوساخ في أحدى محطات المترو أدت لخسائر بشرية.

لذا قررت السلطات اليابانية رفع جميع حاويات الأوساخ من الأماكن العامة وعدم استخدامها سواءً في الشوارع، أو الفنادق، أو المطارات على الرغم مما يسببه ذلك من ازعاج للناس، وما يتطلبه ذلك من انضباط عالي من كل أفراد المجتمع، لكن السلامة أهم من الراحة. مثال آخر، كل القطارات ومنصات المترو مصممة بحيث تكون المسافة بين المنصة والقطار صفر بحيث لا يحتاج الراكب للصعود على السلم ليصل القطار أو ينزل منه.

ولا توجد هناك أي احتمالية لتعلق رجل الراكب بين رصيف القطار والعربة. كما أن هناك حاجز بين الركاب الذين ينتظرون على رصيف المحطة وبين القطارات التي تسير على السكة لا يفتح الا عند وقوف القطارات لكي لا يمكن لأي شخص أن ينزلق ويقع أمام القطار سواءً بقصد (للانتحار) أو بشكل عرضي. هذا الحاجز موجود على كل الخطوط وهي بآلاف الكيلومترات وتكلف مبالغ طائلة، لكن السلامة وأرواح المواطنين تكلف أكثر. 

مثال ثالث، فقد لاحظت أنه في طائرات الركاب اليابانية يتم استخدام أحزمة مقاعد مزدوجة للكتف والبطن، وليس فقط للبطن كما في كل خطوط العالم الاخرى، لضمان سلامة أكبر للركاب عند وقوع الحوادث. أن كل شركات الإنشاء والبناء في اليابان، توظف عمال خاصين وتضعهم على مداخل ومخارج مواقع البناء ومعهم اشارات ضوئية وكأنهم رجال مرور لإيقاف السير او تنبيه المارة عن أي سيارة أو خطر في موقع العمل يمكن أن يؤذي المارة. 

ان هذا يضيف كلف إضافية بلا شك، لكنه يضمن سلامة أكثر للمارة. أن الشعار المرفوع دوماً في اليابان هو أن حياة الأنسان أغلى وأثمن مما سواها. لذا فكل العاملين الذين شاهدتهم بما فيهم رجال الشرطة يرتدون ملابس مهنية كاملة تقيهم وتقي الآخرين من عوامل الخطر أو الجو السيء أو أي شيء يمكن أن يعرضهم للخطر. 

فمثلاً جميع المنظفين، أو الشرطة في الشارع يرتدون ستر تحتوي على مراوح هوائية للتبريد لتجنب درجات الحرارة والرطوبة العالية في الصيف. أما العاملين في المطابخ فلا يظهر من أجسامهم سوى العينين فقط وكل شيء آخر مغطى كي لا يسببون أي عدوى للمستهلكين. نفس الشيء بالنسبة لأي عامل يتصل بالجمهور ويتعامل معهم، فسائقو التكسي، وعمّال القطارات وسواهم، يرتدون كمامات الوقاية من العدوى فضلاً عن ارتداء القفازات.

اضف تعليق