أخطر مرض يصيب واقعنا هو حينما نصاب بالاستلاب والهروب من العصر الذي نعيش فيه، لأن هذين الاستلاب والهروب، يلغيان فعالية كل فكرة، ويمنعان عملية التفاعل الخلاق مع تلك القيم والرؤى التي تعبر عن أصالة الأمة ونموذجها الحضاري. وإن أخطر أثر يصنعه الهروب من العصر، أنه يزيل...

لعل من أولى المسائل التي ينبغي الانتباه إليها، في دراستنا للفكر العربي والإسلامي، هي تلك المتعلقة بهذا التداخل المعرفي والتاريخي بين الهوية والثقافة الذاتية، إلى حد يصعب معه الحديث عن مفهوم ثقافي أو تجليات الثقافة الذاتية، بعيدة أو مستقلة عن ذلك التداخل والتماهي.

هذا الاعتبار المنهجي أساسي في ضبط الأسس لهذا التداخل والتماهي بين المسألتين. ونظرة فاحصة للأسس التاريخية والفكرية، للكثير من المشروعات الثقافية في عالمنا العربي والإسلامي، نجدها حصيلة لهذا التداخل والتماهي في مختلف أبعاده ومستوياته بين هذين العنصرين، ومن ثم يمكن القول، إن هذا المستوى من التداخل، يشكل القاعدة الحقيقية لكل تناول للتاريخ الثقافي العربي والإسلامي.

وليس معنى هذا، أن التداخل والتماهي، هو مجرد كينونة تراثية، تعني الثبات واليباس، بل العكس من ذلك، تبدو هذه الكينونة متفاعلة ومتحركة ومتنامية.

ولكن منطق الاتصال والتراكم والتعاقب، ليس إلغاء جانب الفاعلية والدينامية، أو البحث عن توالد مستمر للقيم والآفاق الثقافية الجديدة من جراء تفاعل هذه الأفكار مع محيطها وواقعها.

وقد عرف الجرجاني (الهوية) في كتابة التعريفات بأنها: هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق، اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق.

أما مجمع اللغة العربية فيعرفها بأنها: حقيقة الشيء الشخصي المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، وليست أي صفات والتي تميزه عن غيره.

فالهوية عبارة عن تلك القيم المطلقة، التي تحتاج إلى جهد إنساني متواصل، لتنزيلها إلى حقائق اجتماعية وحضارية. ولذلك فإن الهوية بوصفها قيما مطلقة، ليست حلا سحريا لمشكلات العالم العربي والإسلامي، وإنما هي بمثابة الوعاء الضروري، الذي ينبغي، أن تنطلق منه الاجتهادات والجهود، من أجل ترجمة هذه القيم المطلقة والخالدة والتي نصطلح على تسميتها بـ(الهوية)، إلى وقائع وحقائق وبرامج، تعالج مشكلات الإنسان، وتجيب على تساؤلاته وإشكالياته المعاصرة.

فلا يكفي أن نرفع لواء الهوية، حتى نحقق تطلعات الإنسان العربي المعاصرة. وإنما نحن بحاجة إلى اجتهاد حكيم، ومعرفة عميقة، ووعي وإرادة مستديمة لكي نستفيد من هذه الثروة في راهننا.

لهذا فإننا ينبغي أن نقرأ مفهوم (الهوية) قراءة متوازنة ومدركة، لقوانين التطور والتغير وطبيعة العلائق القائمة بين الظواهر المعاصرة والتاريخ والقيم المطلقة المتعالية على الزمان والمكان. ولا شك أن حضور القيم المطلقة في مشروعات الأمة المعاصرة مسألة ضرورية وحيوية، وتفاعل الراهن مع العمق الحضاري والتاريخي ترتبط بحيوية علاقة الإنسان المعاصر مع تلك القيم وعناصر العمق الحضاري.

وعلى هدى هذا نقول: إننا لا نكرر أهمية وضرورة حضور القيم المطلقة في عمليات الفعل الحضاري الراهنة، ولكننا في نفس الوقت نقول إن هذه العملية لا تتحقق بشكل سليم وحيوي إلا بعلاقة حضارية ينسجها الإنسان المعاصر بعقلية حضارية ووعي ومعرفة عميقة، مع تلك القيم المطلقة.

هذه العلاقة بهذا المستوى هو المدخل الضروري، لتوظيف الثروة الحضارية (الهوية) في تطوير واقعنا وراهننا.

وبدون ذلك ستبقى هذه الثروة كأنها يافطة شكلية لا دور فعلي لها في حاضر الأمة ومستقبلها.

فالوظيفة الحضارية للهوية هي وظيفة التوحيد المعنوي والروحي والعقلي. ودورنا هو العمل على تقوية وتنمية هذه الوظيفة الحضارية، حتى تتحول هذه الثروة إلى قدرات فعلية ومؤسسية في سبيل التطور والتقدم.

لذلك فإن العلاقة مع الهوية، وحتى تكون مصدرا ومنبعا للفعل الحضاري الإنساني نحن بحاجة إلى التأكيد على الأمور التالية:

1- ضرورة التواصل مع هذه الثروة الحضارية وبذل الجهود العلمية والتاريخية، في سبيل تحقيق تواصل علمي فعال مع هذه الثروة الحضارية.

والتواصل هنا لا يعني فقط قراءة كتب التراث وتحقيقها وطباعتها طباعة أنيقة، وإنما هو يعني:

أ - الإدراك العميق والفهم العلمي والموضوعي لجملة القيم والمبادئ الخالدة والجوهرية والتي تعبر عن حقيقة الأمة الحضارية.

ب - إزالة كل الموانع والرواسب، التي تحول دون التواصل العلمي والموضوعي مع هذه القيم والمبادئ.

ج - أن التواصل في أحد معانيه ووجوهه، يعني خلق المنجز الحضاري الراهن، الذي يؤكد على حيوية هذه الثروة، وإمكاناتها في البناء والتطور وفق مقاييس العصر.

2- أن علاقة الإنسان، والذي يعيش بطبعه أحوالا نسبية ومتغيرة باستمرار، مع القيم المطلقة والخالدة، والقابلة للتنزيل على كل زمان ومكان، هي بذل الجهود الحقيقية لاكتشاف أفضل الطرق وأنجع الأساليب، لتنزيل هذه القيم المطلقة على واقعنا النسبي والمتحول بشكل دائم.

فوعينا وعقلينا وفهمنا للمحيط والضرورات والأولويات، كلها عوامل أساسية لتحديد طبيعة عملية التنزيل.

لذلك لا يكفي أن نعرف حقيقة القيم المطلقة، وإنما لا بد لنا أيضا من فهم عميق للواقع بضروراته وأولوياته حتى يتسنى لنا تنزيل دقيق وحكيم للقيم المطلقة على الواقع النسبي.

وبدون تكامل هذين الفهمين (فهم النص) و(فهم الواقع). لن نتمكن من تحقيق إضافة نوعية، في واقعنا انطلاقا من فهمنا المعاصر لتلك القيم والمبادئ.

ومن خلال هذا المنظور تكون علاقتنا مع الهوية، علاقة إضافة ومصدر من مصادر الفعل الحضاري في الأمة. وعلى ضوء هذا تتجه علاقتنا بمفردات وعناصر الهوية، إلى توفير الشروط المطلوبة لصناعة التفاعل الخلاق بين إنسان هذا العصر، وتلك القيم والمبادئ التي تفاعل معها في يوم من الأيام نفر من الناس، فتحولوا بفضلها من حفاة عراة إلى أسياد العالم، ومن مجتمع جاهلي تسوده شريعة الغاب، إلى مجتمع يسوده الحب والتعاون، وتكتنفه طموحات نبيلة تسع العالم كله.

وإن أخطر مرض يصيب واقعنا هو حينما نصاب بالاستلاب والهروب من العصر الذي نعيش فيه، لأن هذين الاستلاب والهروب، يلغيان فعالية كل فكرة، ويمنعان عملية التفاعل الخلاق مع تلك القيم والرؤى التي تعبر عن أصالة الأمة ونموذجها الحضاري. وإن أخطر أثر يصنعه الهروب من العصر، أنه يزيل القدرة الذاتية التي تدافع عن خيارات الأمة الاستراتيجية.

فالهوية ليست واقعا مجتمعيا ناجزا، وإنما هي قيم الأمة الجوهرية التي يتجدد فهمها بفعل الإنسان وفهمه وإدراكه وديناميته، وقدرته على تحدي مشكلات عصره.

فالإنسان هو الذي يحدد دور الهوية في واقعه المعاصر، فتقاعسه وترهله وكسله لا يحول الهوية إلى بديل عنه. وإنما تجعله يفسر قيم الهوية تفسيرا تبريريا.

والإنسان الفاعل والدينامي، فإنه سيحول هويته إلى مصدر ثراء وحيوية وفعل حضاري.

في سياقات الهوية

لا نجانب الصواب، إذا قلنا إن التطورات الحديثة بأشكالها المختلفة ومؤسساتها المتنوعة وآفاقها الرحبة، لا تلغي ضرورة الانتماء إلى هوية واضحة المعالم، ضاربة بجذورها في عمق التاريخ والمجتمع.

ولا يمكننا بأي حال من الأحوال، أن تكون مؤسسات العلم الحديث، هي البديل عن الانتماء إلى تلك الهوية. كما يطالب (جوزيف شتراير) حينما يقول: "لقد أصبح ممكنا الاستغناء عن الطرق القديمة، لعثور المرء على هويته داخل مجتمع ما. إن شخصا بدون عائلة، وبدون مسكن ثابت، وبدون انتماء ديني، يمكن أن يعيش حياة مكتملة بصورة كافية".

إن هذه النظرة وأمثالها، التي تنظر إلى عملية الانتماء إلى هوية وطنية ثابتة. وعلى صلة عميقة بالجذور التاريخية والدينية مسألة ثانوية، أو بإمكان الإنسان أن يستبدلها بهوية أخرى متحركة. لا شك أن هذه النظرة، تدفع باتجاه إلغاء الضوابط الأخلاقية والاجتماعية، وتقضي على عملية الاستقرار النفسي، التي توفرها الهوية المنسجمة والمعبرة عن التكوين العقدي للناس.

إن الهوية حينما نتمسك بها بشكل إيجابي وواع، ونترجم قيمها ومبادئها إلى خطط عمل وبرامج حضارية. هي التي تصنع التطورات والأشكال المؤسسية الحديثة. ولا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن نعتقد أن الأشكال المؤسسية الحديثة، الخاضعة للتحول والتطور، هي التي تخلق لنا هوية وثابتا وطنيا نسير عليه.

فالهوية هي التي تصنع العمران الاجتماعي والحضاري، وليس العكس. فليس صوابا أن تحل التكنولوجيا محل الهوية وضرورة الانتماء الحضاري.. لهذا نجد أن عمليات المسخ والتبديل الحضاري التي مارسها الاستعمار بحق الشعوب المستعمرة ذات التاريخ والحضارة، لم تؤد إلى تخلي تلك الشعوب عن هويتها. بل كان لتلك العمليات الخارجية الدور الأساسي، في تكريس الهوية في نفوس الناس وتشبثهم بها. لهذا كانت دائما الهوية بعناصرها العقدية والثقافية. تشكل عنصرا أساسيا لتوازن الكيان المجتمعي، بحيث ان وجود أي خلل في هذه المسألة يعني على المستوى العملي بداية التراجع الحضاري.

فوظيفة الهوية الأساس، هي صياغة الكيان المجتمعي، بما يتناغم والمنطق العقدي والتاريخي لتلك الجماعة البشرية. وفي كل الحقب التاريخية التي مر بها الإنسان على وجه هذه البسيطة، كان لغياب الهوية أو ضمورها الدور الجوهري في دخول الكائن البشري في نفق اللاتوازن واللا استقرار النفسي والاجتماعي.. وفي المقابل كان الاستقرار النفسي والاجتماعي، كقاعدة لتطوير الإنتاج وتحسين ظروف المعيشة المادية والمعنوية، رهينا بحسن العلاقة التي تربط تلك المجموعة البشرية بهويتها وعناصرها العقدية والحضارية.

فالتاريخ الحقيقي الذي يتجه إلى صنع المنجز الحضاري لأي مجتمع. يبدأ منذ اتساق العلاقة بين الحركة الاجتماعية والهوية، بحيث تكون الحركة الاجتماعية مجسدة لعناصر الهوية الذاتية للمجتمع.. وهذا ما يقربنا من المفهوم الاجتماعي للزمن. بحيث ان حركة الناس العشوائية تبقى خارج التاريخ وعلى هامشه. بمعنى أن هذه الحركة لا تقود إلى توظيف كل الطاقات والقدرات في سبيل بناء الواقع الحضاري. وإنما هي حركة في أحسن الظروف تقليدية، لاهثة وراء منجزات الغير لاقتنائها، دون تمثل القيم الأصلية التي أوجدتها، وكأن الحضارة سلعة تباع وتشترى. إن الهوية بعناصرها العقدية والحضارية، بمثابة القدرة الخلاقة المستمرة، التي تمد الكيان الاجتماعي بأسباب وعوامل تحقيق التوازن بين الحاجات المادية والمعنوية، الروح والجسد، المصلحة الفردية والجماعية، الدولة والمجتمع، الداخل والخارج.

وهكذا تكون الهوية هي صانعة التضامن بين أبناء المجتمع، وبها يسعى أبناء المجتمع جميعا إلى تحصيل الكمالات الإنسانية، والدخول في غمار منافسة الأمم والشعوب، على بلوغ سبل العلم والمدنية والحضارة. وإن أفول نجم الهوية أو التخلي عنها يورث المجتمع نمطا من التقليد الأعمى لشعوب العالم وطرائقهم في الحياة. وكتب (إدريس شرايبي) تصويراً رائعا إلى هذه الحالة يقول فيها: تصور أن زنجيا ابيض بين ليلة وضحاها، ولكن بقي أنفه أسود، بسبب إهمال القدر. كنت أرتدي سترة وبنطالا، وفي قدمي زوج من الجوارب وقميص وحزام على الخصر ومنديل في جيبي. كنت فخورا، كنت مثل أوروبي صغير، ولكني وجدت نفسي مضحكا عندما وقفت بين أصدقائي، ولقد كنت مضحكا فعلا. فالمنظور الذي ينبغي أن ننظر من خلاله إلى مسألة الهوية، ليس بوصفها معادلا موضوعيا للتقليدية والماضوية، كما أن الحداثة ليست معادلاً موضوعياً للغرب والنموذج الحداثي الأوروبي. إننا ينبغي أن ننظر إلى الهوية، بوصفها تنمية سريعة ومتينة لكل طاقات الأمة في سبيل البناء والتطور.

بمعنى أن خيارات النهوض الثقافي والحضاري، وتجاوز المآزق الراهنة التي تعاني منها الأمة، لا تتم إلا على قاعدة انسجام هذه الخيارات مع هوية الأمة ومعادلتها الذاتية، أو منبثقة من مضمون الهوية والذات الحضارية. ودائما حسن العلاقة مع الهوية بمكوناتها الأصلية، كفيل بأن يعيد للأمة حيويتها الحضارية، ويقوي من إمكانات قيامها بدورها التاريخي تجاه العالم.

ويكفي أمتنا عشرات السنين وضخامة الإمكانات والطاقات التي بذلت في سبيل النهوض اعتمادا على خيارات ومشاريع نهضوية ليست منسجمة وهوية الأمة. فكانت المحصلة النهائية لكل تلك الخيارات والمشاريع، هي المزيد من التراجع الحضاري واستفحال المآزق الداخلية، بحيث ان الأمة أصبحت مكبلة بمجموعة من القيود الداخلية والخارجية التي تمنع على المستويين النظري والعملي من انطلاقة الأمة حضاريا.

فالتطور العلمي والتكنولوجي الهائل، الذي أسقط الحدود وأوصل مناطق العالم ببعضها البعض حتى أضحى "قرية كبيرة" حسب تعبير (ماك لوهان)، والتوسع المعلوماتي الهائل، كل هذه التطورات قد تجرف الإنسان إلى مهاو سحيقة، أو في أحسن التقادير تحوله إلى لاهث وراء الجديد من التكنولوجيا وصناعة المعلومات.

لهذا فإن القاعدة الأساسية للتعامل مع هذه التطورات، هي تأسيس حالة من التوازن المجتمعي، حتى يتمكن المجتمع من ملاحقة التطورات دون إضاعة الذات.

ولاشك أن تأسيس عملية التوازن المجتمعي، لا تتم إلا على قاعدة الهوية وتفعيل عناصرها في الوجود الاجتماعي الشامل. وهذا لا يعني أن الهوية التي نطالب بإحيائها في الوسط الاجتماعي، تؤدي إلى نظام مغلق، موغل في العزلة والابتعاد عن حركة الحياة.

إننا ندعو إلى التمسك بالنظام الثقافي الذي يتضمن مجموعة من القيم والمبادئ، التي ما أن تمسكنا بها، وعملنا على إحيائها في مسيرتنا، إلا وتشبثنا بأسباب التحضر وعوامل التمدن في مختلف الحقول والمجالات. لأن هذه القيم تستنفذ في الإنسان كل الطاقات والإمكانات لوصل المسيرة التاريخية للأمة. وتجاوز كل عناصر القطيعة مع الأمة حضاريا. ولا شك أن عملية الوصل والاتصال بين راهننا وحضارتنا، تشكل الوعاء الحاضن، والحقل المناسب الذي تنمو فيه كل عمليات التجديد والإبداع الثقافي.

وجماع القول: إن من يطلب هوية واحدة بعيدة عن التنوع، يطلب أمرا مستحيلا في الفطرة والناموس الاجتماعي (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة).

اضف تعليق