ورغم مرور 200 عام على انتهاء هذه الموجة في 1824، لا تزال الكوليرا تحصد الأرواح، سواء في قارة أفريقيا التي تشهد حاليًّا إحدى أكبر حالات تفشِّي المرض منذ سنوات، أو في دول الشرق الأوسط التي تشهد صراعات مسلحة، ففي أفريقيا، سجلت 18 دولة أكثر من 335 ألف إصابة و6 آلاف وفاة...

الصراعات المسلحة.. ونقص اللقاحات.. والتغيرات المناخية: تفاعل معقد يسهم في تفشي الوباء في أفريقيا والشرق الأوسط، في عام 1817، اندلعت الموجة الأولى من وباء الكوليرا في منطقة البنغال بالهند، وسط اعتقادات بأن مصدرها كان دلتا نهر الغانج ذات الكثافة السكانية العالية وظروف الصرف الصحي المتدهورة.

ورغم مرور 200 عام على انتهاء هذه الموجة في 1824، لا تزال الكوليرا تحصد الأرواح، سواء في قارة أفريقيا التي تشهد حاليًّا إحدى أكبر حالات تفشِّي المرض منذ سنوات، أو في دول الشرق الأوسط التي تشهد صراعات مسلحة.

ففي أفريقيا، سجلت 18 دولة أكثر من 335 ألف إصابة و6 آلاف وفاة حتى 3 مارس 2024، وتتركز البؤرة الرئيسية للفاشية الحالية في الكونغو الديمقراطية، وتحديدًا في شرق البلاد، الذي مزقته الصراعات والفيضانات والانهيارات الأرضية.

كما تشهد دول الشرق الأوسط التي تعاني من صراعات سياسية مسلحة -مثل اليمن- ارتفاعًا ملحوظًا في زيادة الإصابة بالكوليرا؛ إذ يرتفع عدد الحالات المشتبه فيها بمقدار 500 إلى 1000 حالة كل يوم، وسط توقعات بأن يتراوح العدد الإجمالي للحالات من 133 ألفًا إلى 255 ألفًا بحلول سبتمبر 2024.

ووفق مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، قدر عدد الإصابات المشتبه في إصابتها بالكوليرا في اليمن بحوالي 30 ألف إصابة في الفترة منذ بداية العام الحالي وحتى 29 إبريل 2024، يتركز معظمها في المناطق الجنوبية.

والأمر ذاته بالنسبة للسودان، الذي ارتفع فيه عدد الحالات المشتبه بإصابتها بالكوليرا بنسبة أكثر من 100% خلال شهر نوفمبر من العام الماضي، بعدما تم الإبلاغ عن حوالي 8300 حالة مشتبه بها وأكثر من 200 حالة وفاة، في تسع ولايات، في حين حذرت تقارير أممية من تزايُد تفشي وباء الكوليرا في سوريا بسبب الصراعات المسلحة.

الفئات الضعيفة

عالميًّا، تضاعفت الإصابات بالكوليرا، وأُبلغت منظمة الصحة العالمية عن 473 ألف إصابة في 2022، أي ضعف العدد المُسجّل خلال 2021، وتشير بيانات أولية لتسجيل أكثر من 700 ألف إصابة إضافية في 2023.

وتؤثر الكوليرا في المقام الأول على الفئات الضعيفة من السكان، الذين يعيشون في مناطق لا تتوافر فيها فرص كافية للحصول على مياه الشرب النظيفة ومرافق الصرف الصحي وأنظمة التخلص من النفايات غير الفعالة.

ويواجه كبار السن الذين يعانون من أمراض مزمنة والأطفال -وخاصةً أولئك الذين يعانون من سوء التغذية- مخاطر متزايدة، وهذا أمرٌ مثيرٌ للقلق بشكل خاص في دولة مثل اليمن؛ حيث يوجد عدد كبير من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، ويقدر عددهم بنحو 54 ألف طفل.

ويتفاقم الوضع أكثر بسبب هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات اللاحقة، مما يزيد من احتمال انتقال الكوليرا من خلال تلوث إمدادات المياه.

لماذا يتجدد الوباء؟

الكوليرا هي عدوى بكتيرية حادة تصيب الأمعاء الدقيقة بسبب بكتيريا "الفيبريو كوليرا"، وتنتقل العدوى عادةً عن طريق تناول الماء أو الطعام الملوث ببكتيريا الكوليرا.

وتتمثل أبرز أعراضها في الإسهال المائي الحاد، والجفاف الشديد، والقيء، والتشنجات العضلية، والضعف العام.

وأبرزت دراسة حديثة نشرتها دورية "نيتشر كوميونيكيشنز" التفاعل المعقد بين العوامل التي تسهم في تفشي الأمراض في شرق أفريقيا وجنوبها، مثل نقص اللقاحات، وعدم كفاية فرص الحصول على المياه النظيفة، وتأثير تغير المناخ والصراعات.

وأشارت دراسة أجراها باحثون من جامعتي ولاية كولورادو الأمريكية والفيوم المصرية إلى أن شرب المياه الملوثة وسوء طرق حفظ الطعام تعتبر من الأسباب الرئيسية لانتقال الكوليرا، بالإضافة إلى الاستحمام في الأنهار، وتناول الأسماك المجففة، وعدم غلي مياه الشرب، والتعايش مع حالات الإسهال الحاد، والسفر وتناول الطعام خارج المنزل، واستهلاك بقايا الطعام غير المبردة.

مخاوف مميتة

يقول طاهر الدمرداش، الأستاذ بقسم طب المناطق الحارة والحميات بكلية الطب في جامعة طنطا بمصر: "إن الكوليرا يمكن أن تكون مميتة إذا لم تعالَج بشكل صحيح؛ إذ يمكن أن يؤدي الجفاف السريع الناتج عن الإسهال الحاد إلى فشل الأعضاء، وصدمة، والوفاة في غضون ساعات قليلة، خاصةً بين الأطفال وكبار السن".

يضيف "الدمرداش" في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست": تتمثل طرق الوقاية في شرب المياه النظيفة، وتحسين النظافة الشخصية، والتخلص الآمن من الفضلات باستخدام المراحيض، وتناول الطعام الآمن من خلال غسل الفواكه والخضراوات بالماء النظيف، وتجنب الطعام غير المطبوخ جيدًا.

ويسهم نقص المياه وخدمات الصرف الصحي وسوء التغذية وعدم كفاءة النظم الصحية بشكل كبير في تفشي الكوليرا الحالي، خاصةً في مناطق الصراعات والنزاعات، نتيجة النزوح الجماعي واكتظاظ المخيمات وقلة الموارد، وتدمير البنية التحتية.

ويتابع: يعتمد علاج المرض بشكل أساسي على ترطيب الجسم وتعويض السوائل المفقودة عبر أملاح الإماهة الفموية، بالإضافة إلى المضادات الحيوية، ورغم أهمية اللقاحات في الوقاية من المرض، إلا أن الحاجة إليها يمكن أن تنخفض طالما اهتمت البلدان بمعالجة مسببات المرض، وانحسار النزاعات بالمنطقة.

أزمة لقاحات

تمنح اللقاحات الفموية المعتمدة ضد الكوليرا بمعدل جرعتين مناعةً لمدة 3 سنوات تقريبًا، ومع ذلك، فإن ندرة توافر تلك اللقاحات عالميًّا تُفاقم الوضع، ولا يعود هذا النقص فقط إلى زيادة حالات الكوليرا وحسب، بل أيضًا إلى عدم اهتمام منتجي اللقاحات بإنتاجها.

"نقص لقاحات الكوليرا يرجع إلى قلة اهتمام منتجي اللقاحات بإنتاجها، لأنها رخيصة الثمن وتحتاج الشركات إلى مبيعات كبيرة لتحقيق الربح، مما يجعلها ذات فائدة مالية قليلة للشركات في البلدان ذات الدخل المرتفع"، وفق حسام محمود، الأستاذ بقسم الهندسة المدنية والبيئية بجامعة ولاية كولورادو، لـ"نيتشر ميدل إيست".

وبين عامي 2011 و2020، تم استخدام حوالي 38 مليون جرعة من اللقاح الفموي ضد الكوليرا عالميًّا استجابةً لتفشي الكوليرا، لكن بين عامي 2021 و2022 وحدهما، وكان العالم بحاجة إلى نحو 48 مليون جرعة لمواجهة التفشي الحالي للمرض، وتوافر منها فقط 35 مليون جرعة في 2022، وفق التحالف العالمي للقاحات والتحصين "جافي".

يأتي ذلك بالتزامن مع وقف إنتاج لقاح "شانشول"، وهو أحد لقاحات الكوليرا الرئيسية، وللتعامل مع هذا الوضع، توصي منظمة الصحة العالمية بتلقّي جرعة واحدة من اللقاح بدلًا من جرعتين.

وتوصي المنظمة بالتطعيم ضد الكوليرا للعاملين في حالات الطوارئ والإغاثة المعرضين لخطر الإصابة بالكوليرا أو الأغذية أو المياه الملوثة، وكذلك بعض الفئات الخاصة مثل المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية "الإيدز"، والحوامل، والمسافرين إلى المناطق الموبوءة.

حلول

يقول إسلام عنان، أستاذ اقتصاديات الصحة وعلم انتشار الأوبئة بجامعة مصر الدولية: "إن مياه الشرب والصرف الصحي يتأثران بشدة بالتداعيات الناجمة عن الحروب والنزاعات وتغير المناخ، وما ينجم عنها من فقر وتهجير، وهو ما تعاني منه المنطقة بشدة، وتتعمق الأزمة بالنقص العالمي في توزيع اللقاحات".

ويؤكد "عنان" -في تصريحات لـ"نيتشر ميدل إيست"- أن العبء الأساسي لمكافحة المرض يقع على عاتق الدول، عبر التركيز على عدة محاور، أهمها تخصيص ميزانيات لتعويض شركات الأدوية ودفعها لإنتاج اللقاح وتوزيعه، وتثقيف المجتمعات حول طرق الوقاية من الكوليرا وممارسات المياه الآمنة وتدابير النظافة، خاصةً في المدارس والجامعات لتعزيز الوعي بالمرض، وتعزيز الاستثمار في البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، وتحسين الوصول إلى الخدمات الطبية، خاصةً في المناطق الريفية والنائية، ومناطق الحروب والنزاعات.

من جهته، يرى "محمود" ضرورة اتخاذ خطوات بسيطة لتحسين الوصول إلى البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، تتضمن تجميع مياه الأمطار، وإنشاء شبكات مياه الخزانات، وشراء المعدات والمركبات ومعدات مراقبة جودة المياه الصالحة للشرب، وتدريب الموظفين في شركات المياه والجمهور على مراقبة جودة المياه.

ويقترح "محمود" ضرورة الاستثمار في إنتاج اللقاحات محليًّا وتوزيعها، خاصةً بالمناطق الريفية، ودمجها بسلاسة في نظام الرعاية الصحية، ما يعزز تغطية اللقاح وفاعليته، مشيرًا إلى أنه بالرغم من أن غانا أصبحت أول دولة في أفريقيا تصنع لقاحًا للكوليرا في 2023، إلا أن القارة توفر أقل من 1٪ فقط من اللقاحات التي تستخدمها.

الأمر الأساسي هنا هو القدرة على توقع احتياجات البنية التحتية واللقاحات مع مراعاة التأثير المستقبلي لتغير المناخ والصراعات المسلحة على الأضرار واستعادة البنية التحتية للمياه واللقاحات، ويجب أخذ التغيرات في النمو السكاني في العديد من البلدان الأفريقية في الاعتبار؛ إذ تشير توقعات الأمم المتحدة إلى تضاعُف عدد سكان أفريقيا بحلول 2050، ليصل إلى 2.5 مليار نسمة.

اضف تعليق