تتطلع اجيالنا كافة بلوغ مفترق طرق يرسم مؤسسات تنمية سياسية وطنية تقوم على عاملي الاستقرار والاستقلالية في توفير القرار الاقتصادي الراسخ، عابرة في الوقت نفسه إرضاءات التنمية السياسية المكوناتية المستنزفة للوقت والثروة والانسان، وتنأى السير في اتون نزاعات سياسية هامشية مكوناتية تتقلب مع دورات الاعمال السياسية...

اذا كانت التنمية السياسية بمثابة عملية تحويل وتحسين النظام السياسي في مجتمع معين بغية تحقيق الاستقرار وتعزيز المشاركة السياسية وتحسين القدرات الإدارية والسياساتية للمؤسسات الحكومية، فانها لابد من ان تولد مجتمعاً سياسياً أكثر عدالة واكثر استقراراً، يتمتع فيه المواطنون بفرص متساوية للمشاركة في صنع القرارات التي تؤثر على حياتهم، وتحديداً رسم معالم العمل على تحقيق الاستقرار السياسي من خلال تقوية المؤسسات السياسية وتطوير نظام حكم عادل وفعال يضمن سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بشكل مستدام .

وبناء على ما تقدم، ثمة متلازمة بين ولادة حياة سياسية في الامم الريعية تقوم على تقاسم (القوة والثروة) بين مكونات الشعب الواحد، لا تتعدى جدول اعمالها سوى اشاعة النمط التوزيعي للمورد الريعي وتبديده بمناخ مفعم بضبابات: (التنمية السياسية الريعية الارضائية) وتقوى شوكتها على حساب تعثر عجلات التنمية واسس الاستقرار الاقتصادي. 

اذ تتغذى نوازع استدامتها السياسية على مقدرتها بإحلال انماط تنمية مجتمعية واقتصادية سكونية متضخمة بالوظائف والنشاطات التشغيلية العامة ذات النمط الاستهلاكي المتعايش على مصادر الثروات الطبيعية ومنتجات الاستثمار والتقدم الاقتصادي .

فهي انماط تجمع بين الغنيمة والقبيلة والمعتقد والغلبة لتضمن ديناميكيات تعايشها على ظاهرة تقاسم واستهلاك المورد النفطي وابعاده من ميله الانمائي كواحدة من اهم الموجودات في بناء تراكم راس المال المادي المنتج للدخل الوطني، ذلك الدخل الذي يؤسس لاعادة بناء اولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا الشديدة الريعية .

وبهذا فقد ابتلعت التنمية السياسية (بانموذجها الارضائي الريعي) موارد التنمية الاقتصادية المستدامة وتفوقت تكاليفها الاستهلاكية واستنفدت متطلبات بناء عصر انمائي مستقر بعيد الاجل، فلامناص اليوم من اعادة التفكير باشاعة انماط في النضج الديمقراطي او ( التحديث السياسي) للنظم والهياكل السياسية بما يتلاءم مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية ذات الصلة بالرفاهية. 

اذ تشتمل ذلك التحديث على تقوية المؤسسات الديمقراطية، وتحديث القوانين والسياسات، كي تجدد الحياة السياسية نفسها وتعيد اولوياتها على انماط التنمية الاقتصادية واستدامة رفاهية الانسان كاولوية اولى يتمسك بها النظام السياسي بكلياته واطرافه وعلى وفق عملية اصلاحية شاملة تتبنى الاقتصاد السياسي منهجاً في ترسيخ الهوية الوطنية في التنمية والازدهار المشترك والابتعاد عن هدر التنمية الاقتصادية بمفاعيل الهوية المكوناتية، التي ما برحت تتقاسم قطرات النفط وعوائده للفوز بالاستهلاك الظرفي والمناطقي واستنزاف التنمية بقواعد يومية وآليات غير منتجة على حساب فرص بناء التطور الاقتصادي والاجتماعي الوطني الشامل.

ونشيد بما تناوله المفكر السياسي ابراهيم العبادي في مقال مهم كان عنوانه:اولويات عراقية، قائلاً: العراق يصارع نفسه لتحقيق حد ادنى من النمو الاقتصادي المكافيء لنمو عدد السكان، تحتاج البلاد الى استثمار صافي يبلغ 50 مليار دولار سنويا لتسريع عجلة الاقتصاد وتنويع قاعدته الانتاجية المتخلفة، وسيكون عام 2030 عاما مفصليا عندما يبلغ عدد السكان 50 مليونا وايرادات النفط تراوح مستوياتها، ان لم تنخفض كثيرا .

هذه التحديات تفرض على القوى السياسية ان تعيد النظر في حساباتها وتدرك حجم المسؤوليات التي تواجهها قبل ان تطلق شعاراتها وتفتل عضلاتها سعيا للسلطة، لم يعد ممكنا ممارسة الحكم بعيدا عن اولويات الناس ومصالحهم، خلاف ذلك سيكون انتظار المزيد من الاحتجاجات ومعارك الشوارع ومايتبعها من خراب وتدمير للفرص ومضاعفات امنية وسياسية واجتماعية خطيرة .

وبهذا، تتطلع اجيالنا كافة بلوغ مفترق طرق يرسم مؤسسات تنمية سياسية وطنية تقوم على عاملي الاستقرار والاستقلالية في توفير القرار الاقتصادي الراسخ، عابرة في الوقت نفسه إرضاءات التنمية السياسية المكوناتية المستنزفة للوقت والثروة والانسان، وتنأى السير في اتون نزاعات سياسية هامشية مكوناتية تتقلب مع دورات الاعمال السياسية، تلك النزعات التي ترسم امام المواطنين والوطن سوى ملامح من مستقبل قوامه اللاشيء ويعج بالغموض.

اضف تعليق