في المقال السابق اتضح انه على الرغم من اوجه الشبه الجغرافي والبيئي والاجتماعي وحتى الاقتصادي بين حضارتي النيل والرافدَين، الا انهما سلكا عبر التاريخ وليس فقط في فجره مسلَكَين سياسيَين مختلفَين. ففي الوقت الذي نجحت فيه المركزية الشديدة في مصر، تم تحديها بل والتمرد عليها من قبل العراقيين...
في المقال السابق اتضح انه على الرغم من اوجه الشبه الجغرافي والبيئي والاجتماعي وحتى الاقتصادي بين حضارتي النيل والرافدَين، الا انهما سلكا (عبر التاريخ وليس فقط في فجره) مسلَكَين سياسيَين مختلفَين. ففي الوقت الذي نجحت فيه المركزية الشديدة في مصر، تم تحديها بل والتمرد عليها من قبل العراقيين. اذ لم يتم توحيد العراق بحدوده الحالية تحت حكم واحد الا في 1921. لا بل ان المسلمين ابان الفتح الاسلامي وقبل الخلافة العباسية كانوا يطلفون على العراق الحالي مصطلح (العراقَين) كنايةً عن حاضرتَيه الرائعتَين البصرة والكوفة، ودلالةً على تنازعهما شرف الريادة والسيادة في العراق.
فالعراق عندهم لم يكن واحدا، وحتى عندما تم توحيد العراق تحت قيادة فيصل الاول رحمه الله طالب وجهاء البصرة بالاستقلال او على الاقل بمجلس تشريعي منفصل. كما كانت هناك محاولات جدية لانفصال الموصل عن العراق هذا فضلا عن موقف الكورد الرافض لان يصبحوا جزءً من العراق.
فلم تكن بغداد ولا حتى الحكم تحت قيادتها مطمعا لكثير من العراقيين الذين كانوا يرون في مناطقهم اهلية اكبر للحكم او كانوا يريدون على الاقل اعطائهم وضعا مميزا عن التابعية المطلقة لها. اكثر من ذلك فان كثيرمن العراقيين لا زالوا يُسمّون باسم المحلة او المنطقة التي ولدوا ونشاوا فيها كالشيخلي والكرّادي والدوري والعاني والراوي والشطري وسواها.
ولطالما كان هناك تنافس، واحيانا مشاكل، بين مناطق (محلات) المدينة الواحدة كما في بغداد والنجف وسواهم فضلا عن التنافس بين المدن الصغيرة المتجاورة مثل عانة وراوة، وتكريت وسامراء…الخ. فالاعتزاز بالانتماء الجغرافي الاصغر هو الطاغي في العراق. اما على الجانب الاخر فعلى الرغم مثلا من وجود حاضرتَي الاسكندرية والقاهرة فلم تكنّى مِصر سوى باسمها الموحّد (مصر).
وحينما اراد الرسول (ص) دعوة المصريين للاسلام ارسل رسالة الى عظيم القبط داعيا اياه للاسلام لانه يعلم انه باسلامه سيطيعه كل المصريين ويُسلموا. والمصريون يقولون-للان-حين يقصدوا القاهرة بانهم ذاهبين لمصر، وكانهم يقولون ان القاهرة تمثل كل مصر بالنسبة لنا، وكذلك يفعل الشاميون حين يقصدون دمشق فيقولوا انهم ذاهبون للشام. فالعاصمة والمركز مهمان للمصريين لان فيهما منبع الحكم وشرعيته،ومركز التوحد ودلالته.
لقد كانت الحضارة السومرية تتكون في اوج عظمتها من 12 مملكة شبه مستقلة.
حكم ذاتي
اما الحضارتين الاكدية والاشورية فكانتا تضمان اكثر من ذلك من المدن ذات الحكم الذاتي او شبه المستقل، على مساحة ارض العراق الحالية. ان نظام الحكم في كل حضارات وادي الرافدين الكبرى والممتدة عبر اكثر من اربع الاف سنة قبل الميلاد كان اشبه بما يعرف حاليا بنظام للحكم الفيدرالي، واحيانا الكونفدرالي. صحيح انه في كثير من الفترات كان هناك ملك واحد كبير ومسيطر على تلك الحضارة وامتدادها الجغرافي مثل حمورابي ونبوخذ نصروسرجون الاكدي واشور بانيبال وسواهم.
لكن كل المدن كانت تمتاز بحضارة مميزة واقتصاد شبه مستقل ونظام حكم ذاتي. لذلك فان نظام دولة المدينة city state قد ظهر لاول مرة في التاريخ على ارض سومر جنوب العراق. اما في مصر فقد كان هناك (غالبا) فرعون واحد ودولة مركزية واحدة تحكم مصر. لا بل ان كلمة فرعون في اصلها تعني البيت الكبير او العالي في اشارة الى قصر الحاكم. ففرعون بالنسبة للمصريين رمز للسلطة المركزية الجامعة وليس الملك فقط. لا بل انه (اي الفرعون) اله واحد بالنسبة للمصريين في حين ان الملك بالنسبة للعراقيين القدامى هو مندوب عن الاله وليس الها يعبد. والحاكم بالنسبة للسومريين ظهر في مرحلة لاحقة ومتاخرة عن ظهور الالهة وظهور المعبد. فاول ملك (موثق تاريخيا) ظهر في اوروك Uruk جنوب العراق اسمه انمركار في مرحلة متاخرة عن تاسيس اوروك نفسها.
وقد ظهر لا لحاجة اهل اوروك لحاكم بل لحاجتهم لقائد عسكري يقود جيشهم ضد غزو كيش لهم. وقد تم انتخاب هذا القائد الذي وسع سلطاته فيما بعد ليصبح حاكما من قبل مجلس المدينة. بمعنى ان العراقيين القدامى لم يريدوا حاكما لهم بخاصة وانهم كانوا يمتلكون مجلسي الشباب والشيوخ لاتخاذ القرار عندهم. اكثر من ذلك فان السومريين كانوا يؤمنون، حتى في الدين، بتعدد الالهة وان من يتخذ القرار النهائي هو مجمّع او مجلس الالهة الذي يجتمع وقد يتصارع لاتخاذ القرار بخاصة حين يتعلق ذلك القرار باختيار الملك.
وقد كان الاستاذ طه باقر لمّاحا حين اشار لاختلاف طبيعة العراقيين عن المصريين القدامى من خلال ادبهم الملحمي اذ يقول ان مزاج حضارة وادي الرافدين عنيف ومتشائم (وغير موحّد) وهو ما بدا واضحا في الاساطير والملاحم العراقية. ففي قصة الخلق البابلية تتصارع الالهة اولا على سيادة الكون قبل ان تتفق على اله مندوب عنها ثم يخلق كبير الالهة الانسان ليخدم هذا الاله الحاكم. فعملية خلق الانسان والاله الحاكم جاءت بعد صراع. في حين ان الخلق في قصة الخليقة لحضارة وادي النيل حصل بسلاسة وهدوء وبمجرد ان ارادت الالهة ذلك». لا بل ان قصة الخلق عند المصريين القدامى ترتبط دوما بالماء (وهو لطيف وبارد) ،وليس بالصراع في السماء كما عند العراقيين! الواقع فان هذا الاختلاف الواضح له اسبابه الجيوبولتيكية التاريخية والتي سيتم تفصيلها لاحقا.
اضف تعليق