هذا التباين والانقسام في الموقف، يعكس طبيعة التباين والانقسام في حقيقة الميول والمشارب الفكرية، بين من يشتغل على الفكر الإسلامي بوصفه حقلا والتزاما دينيا وفكريا، وبين من يشتغل على الفكر الإسلامي بوصفه حقلا بحثيا وأكاديميا، وبين من يشتغل على الفكر الإسلامي بوصفه حقلا دراسيا ينتمي لحقل...
أنماط العلاقة
لا خلاف ولا نزاع بين المثقفين والمفكرين المعاصرين في المجالين العربي والإسلامي، على أصل العلاقة بين الإسلام والثقافة الإسلامية وبين النزعة الإنسانية، لكن الخلاف والتباين في ساحة هؤلاء يتحدد حول شكل وصورة هذه العلاقة، قوة وضعفا.
فهناك من يعطي هذه العلاقة صفة الأصالة والتميز والثبات، ويذهب إلى هذا الرأي الدكتور مصطفى السباعي في كتابه (من روائع حضارتنا)، وهو في الأصل أحاديث قدمها لإذاعة دمشق خلال الفترة ما بين 20 محرم إلى 23 ربيع الثاني سنة 1375هـ الموافق 8 سبتمبر إلى 15 ديسمبر سنة 1955م، وفي الحديث عن هذه النزعة تطرق الدكتور السباعي إلى مبادئها ومصاديقها وتجلياته في أبواب التشريعات الإسلامية على صعيدي العبادات والمعاملات، وفي التاريخ الإسلامي الأول.
ويذهب إلى هذا الرأي أيضا الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (الخصائص العامة للإسلام) الصادر سنة 1977م، إذ اعتبر أن الخاصية الثانية من خصائص الإسلام العامة بعد الربانية، هي الإنسانية، وحسب رأيه أن الإسلام يمتاز بنزعته الإنسانية الواضحة الثابتة الأصيلة في معتقداته وعباداته، وتشريعاته وتوجيهاته، إنه دين الإنسان، إلى جانب آخرين يذهبون إلى هذا الرأي كذلك.
وهناك من يعطي هذه العلاقة صفة الاعتراف، وأنها تمثل شكلا من أشكال النزعة الإنسانية الواعية، ويذهب إلى هذا الرأي الباحث التونسي الدكتور هشام جعيط في مقالة نشرها سنة 1992م، بعنوان: (النزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام)، ضمها لاحقا في كتابه (أزمة الثقافة الإسلامية) الصادر سنة 2000م، وحسب رأيه أن الثقافة الإسلامية تعطي السيادة لله، إلا أن القرآن يركز كثيرا على الإنسان من أول الخليقة، ومخطئ ما ذهب إليه المستشرق الفرنسي فون غروبناوم حين اعتبر أن الإسلام أظهر منذ بدايته، قليلا من الاعتبار للإنسان.
وهناك من يعطي هذه العلاقة صفة الوجود التاريخي المقيد بشرط الاتصال والانفتاح على التراث الفلسفي اليوناني، التراث الذي بفضله تبلورت هذه النزعة الإنسانية في المجال العربي الإسلامي في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي، وبتراجع هذا التراث في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي، بعد مجيء السلاجقة اضمحلت وتراجعت هذه النزعة، ويذهب إلى هذا الرأي الدكتور محمد أركون في كتابه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. جيل مسكويه والتوحيدي)، وهي رسالته للدكتوراه التي أنجزها سنة 1969م، وصدرت في كتاب بالفرنسية سنة 1970م، وترجمت إلى العربية وصدرت سنة 1997م.
إلى جانب من يعطي هذه العلاقة صفة العرض في الإسلام في مقابل صفة الجوهر في العلمانية، ويذهب إلى هذا الرأي المثير للجدل الباحث السوري الدكتور صادق جلال العظم في كتابه الوجيز (الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية).
هذا التباين والانقسام في الموقف، يعكس طبيعة التباين والانقسام في حقيقة الميول والمشارب الفكرية، بين من يشتغل على الفكر الإسلامي بوصفه حقلا والتزاما دينيا وفكريا كالدكتور السباعي والشيخ القرضاوي وغيرهم آخرون، وبين من يشتغل على الفكر الإسلامي بوصفه حقلا بحثيا وأكاديميا كالدكتور جعيط وأركون، وبين من يشتغل على الفكر الإسلامي بوصفه حقلا دراسيا ينتمي لحقل دراسة الأديان في التاريخ والعالم وهذا ما يراه الدكتور جلال العظم.
رؤية مغايرة
في سنة 2004م، وبمناسبة تسلمه جائزة ليوبولد بوكاش في جامعة توبينغن الألمانية، ألقى الدكتور صادق جلال العظم محاضرة حملت فيما بعد عنوان (الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية)، وصدرت في كتاب باللغة العربية مترجما عن الإنجليزية سنة 2007م، أنجزها واعتنى بها فالح عبد الجبار بالتعاون مع حسين حمزة.
في هذا الكتاب حاول الدكتور العظم إعطاء النزعة الإنسانية الطابع العلماني، وتصوير أن علاقة الإسلام بالنزعة الإنسانية هي علاقة مع نزعة علمانية، والتأكيد على أن العلمانية هي التي أنتجت وطورت ورسخت المفاهيم والقيم الإنسانية العامة، وأعطتها المغزى الكلي العام، وأصبحت اليوم تمثل الصالح البشري المشترك.
هذه الرؤية أقامها الدكتور العظم بالاستناد على تقرير أمرين هما:
الأمر الأول: أن بالامكان بناء مفاهيم عامة وشاملة، حول حقوق الإنسان، وحرية الضمير، والتسامح الديني، وغير ذلك، انطلاقا من تراث خاص، وذلك اعتمادا على التاريخ.
الأمر الثاني: رغم أن مفهوم حقوق الإنسان ولواحقه مثل الحريات المدنية، وحقوق المواطن، والديمقراطية، وحرية التعبير، والمجتمع المدني، هي ذات منشأ أوروبي حديث، فإنها قد اكتسبت الآن مغزى كليا عاما، وأن هذا المغزى قد حوَّلها إلى خير بشري مشترك.
والنتيجة التي ينتهي إليها الدكتور العظم هي أن النموذج الإنساني العلماني اكتسب اليوم مكانة مزدوجة، وبات يمثل النموذج المعياري الملزم للحكم على القضايا المتعلقة بالإنسان.
وحسب هذه الرؤية فإن العلمانية كانت أقدر وأنجح من الأديان التي ظهرت في التاريخ، في التعرف على هذه النزعة الإنسانية من جهة، وفي إعطائها المغزى الكلي والنفع البشري العام من جهة أخرى.
وإذا كان العظم لا ينفي عن الإسلام تعرفه على القيم الإنسانية العامة، وإمكانية التوافق مع هذه القيم، إلا أنه يضع الإسلام في مرتبة أدنى، في مقابل تعظيم العلمانية، والانتصار المظفر لها، وبشكل لا يمكن القياس والمقارنة بينهما، فالعلمانية في نظره هي الخيار التاريخي، وهي النموذج الأمثل للبشرية كافة.
أمام هذه الرؤية المثيرة للجدل، يمكن القول إن الدكتور العظم لا يستطيع أن يصل إلا لمثل هذه الرؤية، وكان بإمكانه أن يصل إلى ما هو أسوء وأفدح منها، وما تحدث به عن الإسلام هذه المرة، لعله أفضل حديث له، مقارنة بكتاباته ومؤلفاته السابقة، ومنها كتابه (نقد الفكر الديني) الذي فتح عليه معركة قضائية في لبنان عند صدوره سنة 1969م، وتسبب بعزله عن التدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت.
وخلاصة القول: إن ما طرحه الدكتور العظم، لا يخرج عن النسق الأيديولوجي الذي ينتمي إليه، وفي إطار هذا النسق الأيديولوجي الفاضح يمكن النظر لهذا الطرح وفحصه وتقويمه، بمعنى أن ما طرحه الدكتور العظم إنما يعبر عن موقف أيديولوجي لا يخلو من تحيز، وليس عن موقف معرفي محايد.
اضف تعليق