في هذا المقال سأستعرض تاثير جغرافيا اهم حضارتين عرفهما التاريخ الانساني، على بناء الدولة الفرعونية والدولة العراقية قبل الميلاد، ان مدرسة النشوء والتطور في علم الاجتماع تؤمن بان الثقافة الاجتماعية لاي بلد هي ليست نتاج فقط تفاعل حاضره مع بيئته الجغرافية والسياسية والاقتصادية، بل هي نتاج ايضا الموروثات الثقافية للشعوب عبر التاريخ...

اتاح لي ولعي بدراسة الثقافات الاجتماعية للبلدان الاطلاع مؤخرا على كثير من المصادر التاريخية التي توثق لحضارتي الرافدين والنيل، وعلى الرغم من التحذير في كتابي الاخير (ثقافة التصلب: منظور جديد لفهم المجتمع العراقي) من خطأ الاعتماد على الجغرافيا كعامل وحيد لتفسير الثقافات الاجتماعية للبلدان، الا ان من الانصاف القول ان الجغرافيا هي واحدة من اهم عناصر صنع التاريخ والاجتماع البشري حتى ان ابن خلدون (مؤسس علمَي الاجتماع والتاريخ) جعل الجغرافيا اهم محور من محاور نظريته في ما اسماه بالعمران البشري. 

في هذا المقال سأستعرض تاثير جغرافيا اهم حضارتين عرفهما التاريخ الانساني، على بناء الدولة الفرعونية والدولة العراقية قبل الميلاد، ان مدرسة النشوء والتطور في علم الاجتماع تؤمن بان الثقافة الاجتماعية لاي بلد هي ليست نتاج فقط تفاعل حاضره مع بيئته الجغرافية والسياسية والاقتصادية، بل هي نتاج ايضا الموروثات الثقافية للشعوب عبر التاريخ.

يلجأ بعض كتاب التاريخ وكثير من العراقيين ايضا الى جلد ذواتهم من خلال الاشارة الى تفرّق العراقيين وتشتتهم فيستعينون بما يُنسب للامام علي(ع)، وابن الزبير والحجاج الثقفي وسواهم، من اقوال عن العراق والعراقيين بانهم اهل شقاقٍ ونفاق وفرقة وعدم توحد. وعلى الرغم من ان كثير مما نُقل، ويتم تداوله، من اقوال بهذا الخصوص لا تستند الى مصادر تاريخية رصينة، الا ان العراق شهد على مدار تاريخه القديم والوسيط والحديث كثير من الحروب والانشقاقات والانقلابات على الحكم المركزي وقد ثقتها في كتابي اعلاه. على الجانب المقابل نقرا مثلا ان عمرو بن العاص قد قال حينما تولى حكم مصر بان ولايتها «جامعة تعدل الخلافة» بسبب كبر حجمها وكثرة خيراتها وتوحدها.

وفي الوقت الذي لم يكن العراق (برقعته الجغرافية الحالية) موحدا سواء في عصور حضارات وادي الرافدين، او في العصر الاسلامي، او حتى في العصر العثماني فان مصر كانت موحدة تحت حكم مركزي واحد سواءً في عصور الفراعنة او الاسلام او العثمانيين.  

وفي الوقت الذي ظهرت فيه كثير من الحركات السياسية والعسكرية التي طالبت بانفصال اجزاء من العراق عن حكم بغداد بعد تاسيس دولة العراق في 1921، لم يتم تحدي سلطة القاهرة المركزية من قبل اي قوى مصرية في التاريخ المعاصر. 

وحتى في ظل دولة البعث شديدة المركزية والسطوة في العراق كان يجري دوما تحدي سلطة بغداد، بل والخروج عليها طيلة الوقت، مما جعل الحروب لا تتوقف في العراق. اما في مصر، فحتى حين كان يجري انقلاب عسري او شعبي، فانه يتم تحدي السلطة والانقلاب عليها، بعكس العراق اذي يجري فيه (في كثير من الاحيان) تحدي الدولة والانقلاب عليها، وليس السلطة فحسب!

يوم وطني

في مصر هناك علَمٌ متفق عليه، ونشيد وطني متفقٌ عليه، ويوم وطني متفقٌ عليه. اما في العراق فليس هناك يوم وطني، ولا نشيد وطني، ولا علم وطني متفق عليه.

وحتى حين جرى اقرار قانون العطل الرسمية مؤخرا من البرلمان العراقي، نجد اعيادا دينية، وعرقية متفق عليها لدى طائفة، ومختلف عليها لدى اخرى، مع خلو تام حتى من عيد واحد جامع شامل لكل العراقيين!! حتى يخيل للمرء ان هناك طاعة فطرية للمركز في الحمض النووي DNA للمصريين يقابلها كرهٌ شديد للمركزية يسري في عروق العراقيين! 

انها مفارقة تدعو حقا للتأمل، فعلى الرغم من ان البلدَين لهما تاريخ عريق، وثقافات عريقة، ولغة واحدة، واديان متشابهة، وقوى بشرية نشطة وكبيرة، وكلاهما شكلت الانهر مصدرا رئيسا للاجتماع والاقتصاد والسياسة! فيهما لكنهما وعلى مدى التاريخ اختلفا في انظمة حكمهما! فأين يكمن الاختلاف الذي ادى الى شدة المركزية السياسية في مصر، وضعفها في العراق؟ قبل الولوج في تفسير هذه المفارقة، ارجو من الجميع ان يفهموا ان تاشيري لهذه الظاهرة لا يعد امرا ايجابيا لهذه الثقافة ولا سلبيا للاخرى. 

فانا كما اوضحت عبر كتابي وعبر حلقات «الاخ الاكبر» من مدرسة تؤمن انه لا توجد ثقافة في العالم افضل من الاخرى لأن كل ثقافة تنشا وتتطور تبعا لتفاعل سكانها مع الظروف التاريخية والجغرافية والاقتصادية والايكولوجية التي تحيط بهم. 

بالتالي فانه يمكن اعادة صياغة السؤال الذي طرحته ليصبح: ما الذي جعل المصريين مطيعين للسلطة المركزية على مدى تاريخهم، في الوقت الذي يتمرد فيه العراقيين على سلطتهم المركزية باستمرار؟ ما الذي يجعل المصري يطلق على من هو من نفس بلدته او محافظته مصطلح «بلدياتي»، في حين يطلق العراقي عليه مصطلح «ابن ولايتي» وكان البلدة او المحافظة هي امٌ لهما! ما الذي يجعل العراقيين اشدُ مَيلا لجغرافيتهما الصغرى وليس جغرافيتهما الكبرى؟ ففي مصر لم يجري (على حد علمي) سن اي قانون يمنع المصري من خارج القاهرة ان يتملك فيها بعكس ما كان معمول به في العراق خلال النظام السابق، وينادي البعض بعودته الان! لم اسمع او اقرا في مصر مثلا ان العمل في الاسكندرية هو لاهل الاسكندرية حصرا كما هي الدعوات عندنا ليكون العمل في البصرة لاهل البصرة، او في الموصل لاهل الموصل، او في كوردستان لاهلها فقط!!

ان جزءً مهما -وليس جميعه- من فهم هذه المفارقة يكمن في كيفية نشوء الدولة وادوارها، وممارسة السلطة واثارها في العراق ومصر. من المعروف ان الجغرافيا تشكل عاملا حاسما في نشوء الدول والحضارات. لذا فان جميع الحضارات القديمة كانت حضارات رسوبية هيدروليكية. بمعنى انها نشات على ضفاف الانهر التي لم تكن فقط مصدرا للسقي، بل كانت بفيضاناتها المستمرة تترك ورائها اراضٍ رسوبية خصبة عندما ينحسر الفيضان. 

زراعة سهلة

بذلك كانت الزراعة ممكنة وسهلة ووافرة العطاء على ضفاف دجلة، والفرات، والنيل، وانهار الصين وفارس والهند. لقد نشأت الحضارة بانتقال الانسان من اقتصاد الصيد والتقاط الثمار من الطبيعة، الى افتصاد الزراعة. لذا كانت كل الحضارات القديمة حضارات زراعية. من هنا جاءت تسمية حضارة العراق بحضارة وادي الرافدين (دجلة والفرات) وصارت تسمية حضارة مصر القديمة بانها حضارة وادي النيل. لكن، ما هو الربط بين ذلك وبين نشوء الدول ونظام الحكم المركزي واللامركزي. سيتم استعراض ذلك تفصيلا في مقالٍ قادم.

اضف تعليق