ان سيطرت واحدة من القوى الاربعة لا تؤدي فقط الى اضعاف القوى الاخرى، بل الى هيمنة نخبة قليلة على باقي طبقات وفئات المجتمع. فحينما تطغى القوة الاقتصادية على باقي القوى، كما هو حاصل في الولايات المتحدة اليوم، فان طبقة من المليارديرات واصحاب المؤسسات العملاقة (ماسك، بل غيتس…الخ) ستتضاعف قوتهم الاجتماعية...

عبر 18 مقال سابق حاولت تحليل مصادر القوة الاجتماعية الرئيسة (الايدلوجيا، الاقتصاد، السلاح والسياسة) في العراق منذ تأسيسه مع تركيز اكبر على الواقع الحالي. وللتذكير فان تعريفي للقوة هو انها القدرة على جعل الاخرين يفعلون اشياء ما كانوا ليفعلونها بدون وجودها.  

والقوة هنا لا تقتصر على السلطة القانونية بل تتعداها الى كل اشكال القوة القهرية او التعاونية، والرسمية وغير الرسمية، والخاصة او العامة. ان اساس الاهتمام بتحديد مصادر القوة، ومن ثم القابضين عليها في اي مجتمع ينبع من الدور المحوري الذي تلعبه القوة Power في اي مجتمع. 

ان علينا هنا ان نتذكر انه في عصور ما قبل الاجتماع البشري حيث كان الانسان يعتمد على جمع الثمار والصيد ضمن عوائل صغيرة غير ممتدة ومنعزلة عن بعضها البعض، لم يكن هناك تفاعل اجتماعي لعدم وجود تجمعات بشرية كبيرة. وحينما بدا الاجتماع الانساني (غالبا في مناطق ما بات يعرف بجنوب العراق حاليا) كان الناس متساوين ولم يكن هناك تفوق، وبالتالي قوة،لاي مجموعة على الاخرى. 

لكن مع تطور الحياة والتفاعل بين الناس وظهور الزراعة التي ضاعفت من الانتاج وتباين الثروات، ومع اختلاف نوعية وحجم الاراضي التي تمتلكها كل مجموعة من حيث الخصوبة ووصولها للماء وبالتالي انتاجها، ومع بدء الحاجة للتبادل السلعي والتجاري بشكلها الاولي، بدأت النزاعات والحروب تظهر، ورافق ذلك ظهور طبقات اجتماعية غير متساوية القوة والتاثير، وبالتالي ظهورالنخب الاقتصادية والعسكرية وحتى السياسية. 

تكفي الاشارة هنا الى ان اول دولة -مدينة City state عرفتها البشرية كانت (اوروك او الوركاء).ولم يكن لاوروك ملك في بداية تكوينها، رغم انه كان لديها معبد ورجال دين. لقد ظهر اول ملك موثق لاوروك (الملك انمركرحوالي 2700 ق.م) بسبب حاجة المدينة لقائد عسكري يقود جيشها الذي شكلته ليخوض المعارك مع المجموعات الاجتماعية المجاورة في مدينة (اراتا) حسب النص التاريخي. 

بالتالي كان لهذا القائد قوة او سلطة مؤقتة تنتهي بانتهاء الحرب وحل الجيش. ثم تطورت تلك السلطة المؤقتة لتصبح دائمة بعد ان استمرت الحروب والنزاعات العسكرية. بمعنى ان القوة العسكرية (بحسب المفهوم الذي تم تبنيه في هذه السلسلة) سبقت ظهور القوة السياسية. وان قوة المعبد (الايدلوجيا) وقوة الاقتصاد(الزراعة والتجارة) سبقتهما في الظهور التاريخي لانهما شكلا اساس الاجتماع البشري في المدينة. وهكذا نفهم ان التفاعل، والتغيير، والصعود او التدهور الاجتماعي لا يحصل الا من خلال القوى الاجتماعية الاربعة التي كانت مسؤولة عبر التاريخ عن كل ما حصل فيه، كونها-اي القوى الاجتماعية الاربعة- الوسائل التي يتم بلوغ الغايات الانسانية من خلالها.

تطور انساني

ان من المعلوم تاريخيا ان الوسائل كانت دوما اهم من الغايات في تحديد التفاعل والتطور الانساني. فحتى في النص القرآني كانت الوسيلة، اهم من الغاية من خلق الانسان ابتداءً. فالانسان الذي خُلق ليعبد الله (الغاية) اختلف عن بقية من يعبدون الله ،من ملائكته، بالوسيلة رغم اشتراكه معهم في الغاية (العبادة). « وَاذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ انِّي جَاعِلٌ فِي الارْضِ خَلِيفَةً قَالُوا اتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ انِّي اعْلـــَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ«. وهكذا فان الغايات الكبرى في الحياة الاجتماعية عموما لا توجد خلافات كبيرة حولها. فالكل يريد معيشة وحياة افضل،مثلا،لكن المشاكل والاختلافات تبرز عند تحديد الطرق والوسائل المؤدية للحياة الافضل.

فهل هي عن طريق التركيز على الحاجات المادية مثلا، ام التركيز على الحاجات النفسية والاجتماعية للانسان،ام مزيج بين الاثنين؟ من هنا تبرز اهمية دراسة وتحليل علاقات القوة الاجتماعية كونها الاداة الرئيسة للتفاعل الاجتماعي وبلوغ الغايات.

لقد طورّت هذه التفاعلات الانسانية والاجتماعية، كما اسلفنا، اربع مصادر للقوة الاجتماعية تباينت في هيمنة وسيطرة احداها على الاخرى الظروف السائدة عبر التاريخ والجغرافيا. فمثلا كانت القوة العسكرية هي المهيمنة في مراحل قبل الميلاد، وبرزت الاديان (الايدلوجيا) لتسيطر على الحراك الاجتماعي بعد ذلك، وهكذا فعلت القوة الاقتصادية بعد عصر الصناعة.

كما كان للقوة السياسية اهمية كبرى بعد اختراع الدولة الوطنية Nation state في اعقاب قرون من التنازع الحربي بين ممالك وامبراطوريات اوربا. لكن عبر التاريخ كانت كل المصادر الاربعة مرافقة لبعضها البعض دوما مع تفوق لواحدة منها (او اكثر) بحسب الظرف التاريخي والجغرافي. فمثلا هيمنت القوة السياسية المؤدلجة في الدول الشمولية (كالاتحاد السوفيتي والعراق سابقا) على كل مصادر القوة الاجتماعية الاخرى. وفي الدول الراسمالية الليبرالية مثل اميركا كان للقوة الاقتصادية تفوق واضح على القوة السياسية والعسكرية والايدلوجيا. في حين كان للايدلوجيا (الدين) تفوق واضح على بقية القوى في عصور اوربا قبل التنوير حينما كانت الكنيسة هي المحرّك الاساس للحياة الاجتماعية.

وبما ان القوى الاجتماعية بحسب تعريفنا لها (يجب) ان تكون لها اشكال مؤسسية: كالدولة، بالنسبة للقوة السياسية، او المؤسسة الدينية او الاحزاب، بالنسبة للقوة الايدلوجية، اوالجيش والميليشيات بالنسبة للقوة العسكرية، او المؤسسات والشركات بالنسبة للقوة الاقتصادية، فان القاعدة الاساسية هي وجود توازن فعّال بين تلك القوى في اي مجتمع كي لا يتم احتكار القوة من قبل مؤسسة واحدة فقط. 

لقد جرّب العالم، وما زال يجرب، المشاكل التي حصلت سواء داخل الدول او على المسرح العالمي ككل حينما سيطرت قوة واحدة على كل المشهد! وحينما قال «فوكوياما» اننا نشهد نهاية التاريخ بعد ان سقط النظام،فانما عبّر عن رؤيته لسقوط اخر مُعادِل ايدلوجي واقتصادي للراسمالية التي انفلتت من عقالها لتهيمن على معظم انحاء العالم بعد ذلك.

هيمنة النخبة

ان سيطرت واحدة من القوى الاربعة لا تؤدي فقط الى اضعاف القوى الاخرى، بل الى هيمنة نخبة قليلة على باقي طبقات وفئات المجتمع. فحينما تطغى القوة الاقتصادية على باقي القوى، كما هو حاصل في الولايات المتحدة اليوم، فان طبقة من المليارديرات واصحاب المؤسسات العملاقة (ماسك، بل غيتس…الخ) ستتضاعف قوتهم الاجتماعية الى الحد الذي يستطيعون فيه التاثير في كل القرارات المصيرية للدولة. وحينما تتضاعف قوة السلاح (القوة العسكرية) في بلد مثل ايران فانه يعطي للعسكر عُلوية سلطوية على بقية القوى الاجتماعية، بما فيها القوة الايدلوجية التي هيمنت لعقود على القوى الاخرى في المجتمع.

والسؤال الذي يهمنا الان: في ضوء الحلقات الثمانية عشر السابقة التي حللنا فيها كل القوى الاجتماعية في العراق، فهل هناك قوة اجتماعية (او اكثر) مهيمنة على المشهد العراقي ام ان هناك توازن في قواه الاجتماعية الاربع؟ وماهي تداعيات ذلك؟

اضف تعليق