من جديد تثبت لنا الممارسات السياسية في العراق قاعدة ان الدولة الكبيرة ليست بالضرورة هي الدولة الجيدة، ولا هي بالضرورة الدولة القوية. فعلى الرغم من كبر حجم الدولة العراقية وما تستهلكه من ثروة العراقيين الا ان فاعليتها وكفاءتها منخفضَين لاقصى الحدود...

في المقالين السابقين استعرضت اهم المدونات الدستورية والممارسات العملية التي اضعفت القوة السياسية للدولة حتى باتت الدولة الرسمية دولة ضعيفة وغريقة، والدولة الفعلية دولةٌ قوية وعميقة. ففضلا عن اهتمامهم بتعزيز قوة تنظيماتهم الطائفية على حساب الدولة، فقد تجاهل (بناة) الدولة العراقية الجديدة بعد 2003 اهم عنصر من عناصر الدولة وهو هويتها فعجزوا عن تحديده و او توضيحه، اما جهلا او تقصدا. ولكي تتضح الامور اكثر للقارىء اطرح سؤال مفتاحي: ما هي هوية الدولة العراقية؟ هنا لا اقصد طبيعتها التنظيمية كي لا يجاب عن السؤال بانها وكما حددها الدستور في مادته الاولى (دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة) رغم اعتراضي على الصياغة غير الموفقة لهذه العبارة الدستورية، بخاصة كلمتَي (اتحادية واحدة) و (مستقلة ذات سيادة كاملة)!! انها كمن يعّرّف نفسه بالقول اني انسان عاقل!! فلو لم تكن انسان عاقل ما استطعت الاجابة اصلا. ولو كنت فقط انسان عاقل فما الذي يميزك ويفرقك عن الاخرين؟!!

قوة عسكرية

اقصد بهوية الدولة هنا دور الدولة وعلاقتها بشركاء القوة power stakeholders الاخرين مثل الاقتصاد والقوة العسكرية والايدلوجيا او الدين. لقد باتت الدولة الحديثة مزيج من ثلاث ادوار رئيسة تحدد هويتها الداخلية(مع شعبها) وهويتها الخارجية. فهناك دول تحتكر او تهيمن على كل مصادر القوة الاخرى وهي غالبا الدول الشمولية و او المؤدلجة كالدول الاشتراكية. 

فالدولة وفق هذا الانموذج لاعب، بل اللاعب الرئيس في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكل شيء،وهو ما كان العراق عليه قبل 2003. على الطرف الاخر من طريقة التعامل مع القوى المجتمعية الاخرى برز الانموذج الامريكي الذي يعتمد ليبرالية السوق ومشتقاتها، كاللييبرالية الجديدة New Liberalism والتي تؤكد على اقل تدخل ممكن للدولة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية واقتصارها على لعب دور المنظِّم regualater لجوانب الحياة المختلفة،وليس دوراللاعب.  

وما بين هذين الدورين المتطرفًين برز دور ثالث بخاصة في اوربا التي اتبّعت ما يسمى بالديموقراطية الاجتماعية social democracy . وهو دور يقترب من الليبرالي حيث تلعب الدولة دورَي المنظِّم (وليس اللاعب) فيما يخص الاقتصاد،واللاعب(وليس فقط المنظّم) فيما يخص الشؤون المجتمعية حيث تضمن الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وغيرها من الشؤون الاجتماعية والخدمات التي تهم كل افراد المجتمع.

وعلى الرغم من ان دستور العراق بصياغاته المختلفة مال اكثر نحو الانموذج الثالث (الديموقراطية الاجتماعية)، او هكذا يُفهم منه، الا ان التطبيقات العملية منذ 2003 لحد الان تترك المختصين في حيرة ازاء هذه الهوية (الفرانكشتانية) للدولة العراقية. 

ففي الاقتصاد مثلا، لا زالت الدولة هي اللاعب الاساس رغم انها رسميا لم تعد دولة اشتراكية. ان الحكومة العراقية هي صاحب العمل employer The الاكبر في الاقتصاد الوطني وبشكل مشابه لما موجود في النظم الاشتراكية. فهناك اليوم ما يقترب من 5 ملايين عامل وموظف في القطاع العام يشكلون حوالي  40 بالمئة من مجموع القوى العاملة في العراق. 

واذا اخذنا بنظر الاعتبار عدد المتقاعدين ومن يتقاضون رواتب الضمان الاجتماعي فهناك ما يناهز 9.5 مليون عراقي (22 بالمئة من الشعب العراقي) يتقاضون ما مجموعه 67 مليار دولار سنويا (تستهلك حوالي 70 بالمئة من ايرادات الموازنة). وان نسبة مساهمة الحكومة في الناتج المحلي الاجمالي بلغت 65بالمئة وهي نسبة تؤكد ان الدولة العراقية هي اللاعب الاساس في الاقتصاد الوطني. والخطير في الامر انه بمقارنة الارقام منذ 2003 لليوم يظهر بوضوح ان الحكومات العراقية المتعاقبة،ورغم ادراكها لخطورة هذا الاتجاه التوسعي لدور الدولة في الحياة الاقتصادية، الا انها تستمر (ولاسباب سياسية انتخابية اساسا) في التوسع حتى باتت نسبة موظف عام مواطن في العراق هي من بين الاعلى عالميا حتى مقارنةً بنظم شمولية عالمية.

اما على الصعيد الاجتماعي فلا زالت الدولة العراقية هي الموفّر الاساس للخدمة الصحية والتعليمية، رغم تدني معايير تلك الخدمات.

وحتى في مجال الضمان الاجتماعي فعلى الرغم من التوسع مؤخرا في شمول الفقراء بمظلة بالرعاية الاجتماعية، وهي راتب شهري لا يصل لمستوى خط الفقر بحسب معايير صندوق النقد الدولي، ليشمل 5.6بالمئة من مجموع سكان العراق الا ان نسبة الفقر في العراق تتراوح بين 20-40 بالمئة بحسب تقديرات الدراسات المختلفة. 

هذا يعني ان هناك ما لا يقل عن 15-35بالمئة (حوالي 6.5 -15 مليون عراقي) هم تحت خط الفقر وخارج نطاق تغطية الرعاية الاجتماعية في العراق. واذا اخذنا بنظر الاعتبار مدى ونوع شمول الخدمات الاجتماعية الاخرى التي تقدمها الدولة في العراق (الامن، القضاء، الكهرباء، الماء، المجاري، البيئة…الخ) فسنخرج باستنتاج واضح ان الدولة في العراق قد عجزت عن لعب دور حقيقي وفاعل في الحياة الاجتماعية بالعراق.

ان تضخم حجم البيروقراطية المدنية والعسكرية في العراق لم ينعكس ايجابا عليها كمصدر رئيس للقوة الاجتماعية. ومن جديد تثبت لنا الممارسات السياسية في العراق قاعدة ان الدولة الكبيرة ليست بالضرورة هي الدولة الجيدة، ولا هي بالضرورة الدولة القوية. فعلى الرغم من كبر حجم الدولة العراقية وما تستهلكه من ثروة العراقيين الا ان فاعليتها وكفاءتها منخفضَين لاقصى الحدود.

حجم الهوية

ان قوة الدولة لا تعتمد على حجمها، بل على هويتها ودورها كلاعب اساس في الحياة الاجتماعية.

الخلاصة التي يمكن استنتاجها من هذه المقالات الستة عن القوة السياسية في العراق هي انه، وعلى الرغم من تباين قوة الدولة في العراق (بين تشتت diffusion وتركّز بل وتسلط احيانا) منذ تاسيسه في 1921 الى اليوم، الا ان الماسكين بالسلطة في العراق قد اضعفوا الدولة العراقية الجديدة (بعد 2003) بشدة وشتتوا قوتها بين تنظيمات طائفية وممارسات محاصصية حرمتها من ان تكون اللاعب الاساس للقوة مما اضعفها في مواجهة القوى الثلاث الاخرى (الايدلوجيا، والاقتصاد والسلاح).

اضف تعليق