الفارق بين الانفعال والغضب في استمرارية الانفعال مع الحياة اليومية كحالة وسمة شخصية، بينما الغضب حالة ثابتة قابلة للتفعيل كما هي قابلة للتسكين ايضاً، فالاول لا يمكن ان يكون محموداً، ما خلا بعض الحالات العفوية او في ظروف طارئة، بينما الغضب مطلوب في موارد عدّة، لاسيما في مسار الإصلاح...

زعيق رجال الشرطة و"الأمن"، وابتزاز المنظومات الحزبية ورجالاتها، وهواجس الطرق على أبواب البيوت حذر الاعتقال أو التجنيد لـ"جيش القدس"، كلها كانت تمثل منظومة الرعب التي سلبت المواطن العراقي توازنه النفسي وهدوئه، مما خلق توتراً في السلوك العام، ومن مظاهرها التي لفتت انتباهي لدى عودتي الى بلدي العزيز (العراق) عام 2003 بعد سقوط صنم بغداد، هو الصوت المرتفع لكثير من الناس خلال احاديثهم الجانبية، او حتى من يريد الاجابة على سؤالي او توضيح شيء ما في الاماكن العامة.

هذه الحالة الطارئة التي ولدت في مرحلة الرعب والقمع والتنكيل، استمرت في سلوك البعض، فصار من الطبيعي سماع أخبار عن أعمال عنف دموية في الوسط الاجتماعي لاسباب أكثرها تافهة، او لا تستحق ارتكاب جريمة الاعتداء بالسلاح الناري أو الأبيض إثر مشادة كلامية، او عنف أسري.

التوظيف سياسياً بدلاً من معالجته نفسياً

نشر ثقافة الانفعال واتخاذها وسيلة للمخاطبة بين افراد المجتمع، أو للدفاع عن الرأي و وجهة النظر، دون الوسائل الحضارية الاخرى، يُعد جريمة غير مباشرة بحق الفرد والمجتمع، ويجعل الناس بهشاشتهم النفسية مستعدين للانصياع لأوامر الأقوى في الساحة، وهذه ليست خاصة بوضعنا في العراق، وإنما نلاحظها في بلدان مسكونة بالديكتاتوريات الفردية والفئوية، وما تنتجه من تضليل وتجهيل على مدار الساعة لتغذية الساحة بالانفعال بشكل مستمر. 

وبما أن العلم والمعرفة والوعي من عوامل القوة بما يمكّن صاحبه من اختيار الأفضل والأقل ضرراً، فان اصحاب المصالح السياسية والاقتصادية يسعون دائماً لإبعاد الناس عن الحقائق، وعن كل ما يجعلهم يفكرون بشكل صحيح ومنطقي، ولعل هذا ما دفع البعض من الناس للقول: "ليسرق المدير او الوزير ثم ليعبّد الشوارع ويبني المدارس والمستشفيات ويوفر لنا فرص العمل والسكن"! وما المشاريع ذات الظاهر الجميل والملموس، مثل فتح الطرق الجديدة في بغداد والمحافظات، وتعبيد الشوارع، وبناء المدارس، وحتى رفع مستوى انتاج القمح الى ارقام عالية تقرّب العراق لأول مرة من الاكتفاء الذاتي، إلا استجابة لهذه الحالة النفسية المتأزمة منذ سنوات عند الجماهير العراقية، وإلا فان رئيس الوزراء الحالي السيد محمد شياع السوداني ليس مسؤولاً عن ولادة هذه الحالة، فهو دخل على السكة من احدى المحطات في الطريق الطويل، بقدر ما يعمل مشكوراً على تحريك مشاريع متلكئة منذ سنوات، والتسريع في تنفيذ بعض الاجراءات ذات الصلّة بالمواطن مثل تسديد مستحقات اصحاب مزارع القمح، او تنظيم وتقوية شبكة الحماية الاجتماعية، وغيرها من المشاريع الاقتصادية والتنموية. 

ومن المؤكد أن نشر الوعي والثقافة الصحيحة بين الناس يكلف اصحاب المليارات والامتيازات خسارة معظم ثرواتهم وما جنوه طيلة العشرين سنة الماضية، ومن أبسط الامثلة الواقعية حالياً؛ نشر ثقافة الحقوق والواجبات بين المجتمع والدولة، وأن للجميع فرص متساوية في العمل والاستثمار، لا أن تكون القروض بملايين الدولارات لهذا دون ذاك، وايضاً ثقافة المسؤولية من خلال توزيع قطع أراضي مع قروض البناء للمحتاجين، لاسيما اصحاب دور العشوائيات (التجاوز)، وايضاً للشباب المقبل على الزواج، لحلّ أزمة السكن من داخل المجتمع نفسه، بدلاً من إعطاء قروض بالمليارات لمستثمرين يبنون مجمعات سكنية عملاقة تقدم دور وشقق فارهة للأثرياء فقط. 

تقويم الغضب والاتجاه الصحيح

بما أن الحالة الانفعالية بالأساس تمثل إفراز للقوة الغضبية المغروزة في نفس كل انسان، فليس المطلوب لجم هذه الحالة وإنهائها الى الأبد، فهي كالقوة الشهوية التي صنفها العلماء من جملة قوى نفسية تمكن الانسان من استخدامها بالشكل الصحيح لحياة صحيحة وسليمة، و إن أساء استخدامها دفعته للمكاره والمهاوي.

الفارق بين الانفعال والغضب في استمرارية الانفعال مع الحياة اليومية كحالة وسمة شخصية، بينما الغضب حالة ثابتة قابلة للتفعيل كما هي قابلة للتسكين ايضاً، فالاول لا يمكن ان يكون محموداً، ما خلا بعض الحالات العفوية او في ظروف طارئة، بينما الغضب مطلوب في موارد عدّة، لاسيما في مسار الإصلاح، او مواجهة خطر داهم على الصعيد المادي؛ العسكري، او على الصعيد المعنوي؛ التحديات الفكرية والثقافية من الخارج. 

وبالعودة الى العلاقة بين افراد المجتمع مع مؤسسات الدولة، او الانظمة الحاكمة بشكل عام، فانها لا تهتم كثيراً لانتشار ظاهرة الانفعال في الوسط الاجتماعي، سواء في العلاقات البينية، او على شكل اتخاذ مواقف متسرعة او أحكام قاسية على هذا او ذاك، بينما تتحسس من قدرة الفرد على توجيه القوة الغضبية لديه باتجاهات تتفق ومتبنياته العقدية والفكرية بغية إصلاح خطأ ما في السلوك العام، او في خطأ في مؤسسات الدولة.

هذه القوة لن تظهر في الشارع كحالة انفعالية يمكن قمعها بخراطيم المياه او الهراوات في الشوارع، وإنما تنفجر من داخل المؤسسات الحكومية و في قلب المجتمع ذاته، مثل المتاجر والمعامل والمراكز التعليمية والاكاديمية على شكل أعمال احتجاجية بأشكال مختلفة، كما يجري التحرك لتعديل القانون الخاص بحضانة الطفل للزوجين المنفصلين، ضمن المادة 57 في قانون الاحوال الشخصية، وهكذا يتوجب الاستمرار في الضغط باتجاه قوانين تحمي حقوق المواطن وتحفظ هيبة الدولة وثروات البلد.

وبالتأكيد ليس الأمر بهذه السهولة، فهو يحتاج لزمن تتخلله أعمال تثقيف وتكريس لثقافة النقد البناء والرفض كل اشكال الانحراف، او انتهاك لقيم الحق والفضيلة، بمعنى؛ أننا نحتكم الى العقل والمنطق في التعامل مع الاشياء والاحداث، وليس الى العاطفة وما يتبعها من انفعالات سريعة، وهذا من شأنه تحذير الانظمة الحاكمة، وايضاً الساسة ممن يدّعون أنهم منتخبون من جماهير الشعب، بأن يفكروا ألف مرة قبل إصدار أي قرار، او العمل على سنّ أي قانون في البرلمان يكون مجانباً لقيم الحق، ومنتهكاً لحقوق الانسان. 

اضف تعليق