لقد عكست كثير من الممارسات السياسية وبعضها خالف حتى الدستور الفلسفة المكوناتية لسياسة عراق ما بعد 2003، فمثلاً باتت ممارسة المحاصصة المكوناتية تتفوق في أهميتها على النصوص القانونية والدستورية للدولة، فقد جرى مثلاً طوي كثير من ملفات الفساد التي تورطت فيها كتل سياسية وأشخاص ذوي نفوذ مقابل...
ذكرت في المقال السابق أن من وضع دستور العراق، وأتساقاً مع تجربته التاريخية المريرة مع الدولة، كان على ما يبدو مقتنعاً بأن المستقبل السياسي لمكوّنه الطائفي أو العرقي يجب أن لا تضمنه الدولة يعد اليوم (بسبب ما يعتقدونه من ظلمهم التاريخي لها) بل تضمنه لهم تنظيماتهم المكوناتية الذاتية التي لا تسيطر عليها الدولة.
وقد تجسد ذلك عملياً في الممارسات السياسية في العراق، وليس فقط في المدونّة الدستورية التي أوضحت سابقاً كيف أنها أنحازت لقوة المكونات بدلاً من قوة الدولة. وبدلاً من أن تكون المصدر الأساس لسلطة الدولة باتت أحد مصادر أضعاف الدولة في مقابل اللاعبين السياسيين المنافسين لها.
لقد عكست كثير من الممارسات السياسية (وبعضها خالف حتى الدستور) الفلسفة المكوناتية لسياسة عراق ما بعد 2003. فمثلاً باتت ممارسة المحاصصة «المكوناتية» تتفوق في أهميتها على النصوص القانونية والدستورية للدولة.
فقد جرى مثلاً طوي كثير من ملفات الفساد التي تورطت فيها كتل سياسية وأشخاص ذوي نفوذ مقابل غض النظر عن فضائح فساد أخرى لممثلي المكوّن الآخر. وصار العرف للتصويت في البرلمان وأتخاذ القرار في الوزارات والمديريات التابعة لها على أساس مصلحة المكوّن (كما يراها ممثلوه السياسيين) حتى ولو أدى ذلك للإضرار بالدولة.
لا بل أنه جرى أبتلاع الماكنة البيروقراطية للدولة بمختلف أذرعها، من قبل المحاصصة العمودية (الطائفية) والافقية (ضمن الطوائف). وضاع الفصل تماماً بين السياسة والإدارة حتى باتت الإدارة أنعكاس أو صدى للمكونات وليس انعكاس أو صدى لسياسة الدولة.
ووصل الحال أن يتم تعيين مديري المديريات والشعب والاقسام الادارية حتى البسيطة منها على أساس الولائَين الطائفي أولاً والحزبي ثانياً. بذلك حلّ نظام الغنائم Spoil System محل نظام الجدارة Merit System في البيروقراطية العراقية. بمعنى أنه جرى هدم البنية التحتية للدولة العراقية، والتي تتمثل بالجهاز البيروقراطي حتى باتت النظرة السائدة عن الإدارة العراقية أنها إدارة فاسدة وغير كفوءة.
وفي مقابل هذه الدولة منخورة الأسس، تم تأسيس وتطوير كثير من التنظيمات والقوى السياسية الموازية للدولة والتي باتت فيما بعد أقوى منها، بل وسيّدّة لها. خذ مثلاً ما يسمى بالمكاتب الاقتصادية لاحزاب السلطة. وخذ مثلاً مدراء مكاتب الوزراء ووكلاء الوزراء والمديرين العامين في الدولة العراقية.
لقد تحوّل هذين المكتبَين (الاقتصادي ومدير مكتب المسؤول الإداري) الى ما يشبه المطبخ السياسي والاداري لتلك الوزارة أو المديرية. فكل العقود والقرارات الاساسية التي تخص عمل الوزارات وتوابعها يجب أن تمر من خلال هذا المطبخ الذي يقوم بسلقها أو شيّها أو طبخها بحسب رغبة المكوّن و أو الحزب وليس بحسب حاجة الدولة.
ولم تقتصر الممارسات المحاصصية المضعِفة للدولة على الجهاز البيروقراطي لها، بل تعدته في كثير من الأحيان الى المؤسسات الكبرى للدولة فضلاً عن جهازها التنفيذي. خذ مثلاً أحد قادة الأحزاب السياسية (المسلحة) الذي يصرّح علناً أن رئيس الوزراء هو مدير عام بيد أحزاب السلطة يحركونه كيف يشائون وينفذ لهم ما يقرروه هم وليس ما تقرره الدولة أو رئيسها!!
وهذا فصيل مسلح يدخل للمنطقة الخضراء ويحتلها، لا بل ويقتحم معسكر أهم جهاز أمني (مكافحة الارهاب) ويعتقل ضباط منه لأنهم تحدوا سلطة ذلك الفصيل. ثم لا يكتفي ذلك الفصيل بهذا ولا حتى بالدوس بأقدام مسلحيه على صورة رئيس الوزراء، بل يهدد علناً بقطع (أذن) رئيس الوزراء.
بناء دولة
وقبل ذلك فأن رئيس أحدى أهم الكتل السياسية التي شاركت في (بناء الدولة) في العراق بعد 2003 يعترف عبر الإعلام أنهم (أي الاحزاب السياسية) ساهموا في إضعاف السلطة القضائية من خلال تدخلهم المستمر في قراراتها!! أما المؤسسة الاخرى بالغة الأهمية للدولة (البرلمان) فقد فَقَدً ثقة من يمثلهم من جمهور منذ مدة طويلة حتى أن أعلى درجة ثقة حاز عليها من قبل الشعب خلال العقدين الماضيَين كانت بحدود 25 بالمئة ‘في حين أنها كانت بين 10-20 بالمئة في معظم أستطلاعات الرأي العام التي أجريت منذ 2005 ولغاية اليوم.
ولعل عزل رئيس البرلمان من قبل المحكمة الاتحادية بسبب اتهامه بالتزوير (تصوروا رئيس برلمان العراق مزوِّر) ثم عجز البرلمان عن انتخاب بديل عنه بعد أكثر من سبعة أشهر، مع ما رافق ذلك من أحداث مؤسفة في جلسة أنتخاب البديل أدلّة مضافة على ضعف ووهن الدولة العراقية ومؤسساتها وقوة وعُلوية منافسيها السياسيين.
لقد باتت الدولة العراقية العوبة الاحزاب والقوى المنافسة لها، وصار الحديث عن دولة موازية لدولة العراق، أو دولة عميقة ضمن دولة العراق حديث غير صحيح واقعاً. فهناك فعلاً دولة بديلة، ومعيقة هي التي تحكم العراق فعلاً، فدولة العراق كما تبدو عليه اليوم غريقة، أما الدولة البديلة فهي قويّة وعميقة.
اضف تعليق