ان اقامة وجبات الطعام تزيد من آلام المصاب لخسائرها المالية الجسيمة، كما ان العوائل ليست جميعا قادرة على ذلك، الأمر الذي يرهقها ويحرجها اجتماعيا، ما يدفعها للاستدانة واثقال كواهلها للتخلص من هذا الحرج، وليس من الأخلاق وضعها في هذا المأزق الصعب الذي يكشف عن عوز بعضها...
لم يُعرف عن العراقيين بخل، بل هم أهل الكرم، ولا أظن أحدا يفوقهم في هذا الشأن أبدا، رأيت أقواما عديدة وتعاملت معهم، فوجدتهم لا يرقون الى ذيل ثوبنا في اكرام الضيف غريبا كان ام قريبا، لا نحتاج الى شواهد لإثبات تمسكنا بهذه القيمة، فهي سلوك ظاهر للجميع، لذلك دائما ما يُدهش غير العراقيين عند زيارتهم لبلدنا. والكرم شجاعة، والجبان لا يمكن أن يكون كريما، كما لا يمكن للبخيل ان يكون شجاعا، فالذي همه اكتناز المال، لا يتردد في خفض رأسه لمن لا يستحق .
لا نحسب للمال حسابا عندما يتعلق الأمر بالكرامة والسمعة واعلاء الشأن، كما لا يهمنا ان كان الذي أكرمناه قد لا نراه ثانية، فليس في وارد تفكيرنا أن يرّد فضلنا، هذا ما اعتدناه، ورسخ في سلوكنا، والاستثناء في ذلك يكاد لا يذكر .
قد يرى غير العراقيين في كلامي تحيزا، ليقولوا هكذا يكتب أي كان عن قومه، بينما كلامي لا ينطوي على وصف ليس فينا، فلا غرابة أن نستدين لإكرام ضيفنا، ونقدم ما لدينا حتى وان كان على حساب لقمة أطفالنا، ربما يصفون سلوكنا بعدم الصحة، بداعي ان المرء لا بد أن يحرص على ماله، وأن يحسب ما سيجنيه من انفاقه، واكرامك للغريب كأنك تنفق مالك في غير محله، وذلك أبعد ما يكون عن تفكير العراقيين، على الكرم جبلوا، وصار جزءا من سليقتهم.
ولا أُبالغ ان قلت هم الأكثر صحة في سلوكهم الكريم من غيرهم، فالحياة تفقد معانيها بلا قيم، والكرم قيمة سامية، انها تقدير للشخص بوصفه انسانا، وكل انسان بطبعه يبحث عن تقدير الذات، فسلوكنا اختصر الأشياء قبل أن يرسم ما سلو هرمه الذي يقف تقدير الذات من بين حاجاته المهمة، وان العراقي يريد في سلوكه أن يكون بمستوى القيمة ومعانيها النبيلة، ولكي يكون هكذا، لا يبالي بما يترتب على كرمه حتى وان أُثقل بالديون، وهذا بالضبط ما يحدث في مجالس العزاء، فبرغم مأساة الفقدان التي تمر بها العوائل، لكنها لا تتواني في تقديم ما تملك للمعزين وما لا تملك، أليس في قدومهم تقدير عال للعائلة، ووفاء لمكانة المتوفي ؟، فالتعزية واجب ومن العيب عدم أدائه، ولذلك أُطلق عليها في بعض محافظاتنا (الواجبة)، اي الالتزام الذي لا عذر لمن لا يؤديه، فضلا عن دورها في تخفيف المصاب على أهل الفقيد .
ان اقامة وجبات الطعام تزيد من آلام المصاب لخسائرها المالية الجسيمة، كما ان العوائل ليست جميعا قادرة على ذلك، الأمر الذي يرهقها ويحرجها اجتماعيا، ما يدفعها للاستدانة واثقال كواهلها للتخلص من هذا الحرج، وليس من الأخلاق وضعها في هذا المأزق الصعب الذي يكشف عن عوز بعضها، او ما يشعرها بأنها أدنى من الآخرين.
بالمقابل كان من ضمن عاداتنا اسهام المعزي بمبلغ من المال لأهل العزاء يُطلق عليه (الفضل) الذي يأتي من باب التكافل الاجتماعي، واعانتهم على ما تقتضيه مجالس العزاء من متطلبات مالية، لكن لوحظ مؤخرا ان الناس لم تعد تسهم بهذا المبلغ بذريعة ان مجلس العزاء لا يتضمن وجبات طعام، وبذا لا موجب لدفع هذا المبلغ الزهيد الذي بمجموعه يسد حاجة، وهو أقرب للدين الذي سيرده متلقيه لصاحب الفضل لاحقا، ولا أحد بعيد عن مثل هذه الحوادث، فالمجالس ليس مطاعما.
ربما يقول قائل ان الفضل يحرج المعزي غير القادر، والجواب أيهما أولى بعدم الاحراج المعزي ام أهل العزاء ؟، ولا ضير ان فاقت مبالغ الفضل متطلبات العزاء، فمن حسناته توفير ما يعين العوائل على مواجهة تداعيات الفقدان، لا سيما اذا كان المتوفي معيلا لعائلته، علينا محاربة وجبات الطعام، والتمسك بالفضل، لكي لا نوصف بالبخلاء ونحن غير ذلك .
اضف تعليق