هناك عبادات، وهناك زيارات، لابد للإنسان المؤمن أن يتمسك بها ويؤديها كما هي، ولكن هل يكفي هذا لكي يكون هذا المؤمن مقبولا عند النبي صلى الله عليه وآله، هناك ركن آخر مهم يقع على عاتق المؤمن، بل هو ركن أهم من جميع الأركان الأخرى، أو وهو ركن الأخلاق...
(ملاك الأفضلية عند النبي الكريم صلى الله عليه وآله هو حُسن الخُلق)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
تتشابك في حياة الإنسان مجموعة من المبادئ والأهداف، تلاصقها مجموعة من النشاطات التي يقوم بها الإنسان على أمل أنه يفي بقضية الالتزام بالمبادئ، ويسعى في اتجاه الأهداف وينشط صوبها عبر جملة من الأعمال، فالمبادئ تقع من ضمنها العبادات والزيارات للأئمة المعصومين عليهم السلام، والأهداف أيضا تصب في الاتجاه الصحيح، ومن ضمنها ما يؤديه الإنسان من عبادات واجبة ومعروفة.
هناك عبادات، وهناك زيارات، لابد للإنسان المؤمن أن يتمسك بها ويؤديها كما هي، ولكن هل يكفي هذا لكي يكون هذا المؤمن مقبولا عند النبي صلى الله عليه وآله، هناك ركن آخر مهم يقع على عاتق المؤمن، بل هو ركن أهم من جميع الأركان الأخرى، أو وهو ركن (الأخلاق)، إنه أولى من العبادات بحسب الحديث النبوي الشريف الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وآله: (أفضلكم أحسنكم أخلاقاً).
وهكذا نفهم بأن الأخلاق تتربع على قمة الصفات والملَكات التي يجب أن يتّصف ويتّسم بها المؤمن، نعم أنت تصلي وتصوم وتؤدي الفرائض على أفضل وجه، ولكنك تتحرك في وسط اجتماعي، وتتضارب مصالحك مع الآخرين، وهناك حقوق وحدود وتعاملات أخلاقية وإنسانية تضغط عليك، لهذا عليك أن تتحلى بالخُلُق الرفيع، ولا تكفي العبادات والزيارات وحدها.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في محاضرة توجيهية قدمها سماحته ضمن سلسلة محاضرات (نبراس المعرفة):
(لا شكّ إنّ المؤمن يصلّي ويصوم ويحج ويزور المعصومين صلوات الله عليهم، والمؤمنة تصلّي وتصوم وتحجّ وتزور المعصومين صلوات الله عليهم، لكن الملاك للأفضلية عند رسول الله صلى الله عليه وآله، ليس كثرة العبادة وكثرة الصلاة وكثرة الصيام وكثرة الحجّ وكثرة الزيارات، بل الملاك هو حسن الخلق).
التنافس الأخلاقي بين الأزواج
ويضرب لنا سماحة المرجع الشيرازي أمثلة واقعية يستلّها من واقع حياة الناس، ليوضّح من خلالها من هو الإنسان الأفضل والمؤمن الأحسن عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فالعلاقة بين الزوجين مثلا يجب أن تقوم على الأخلاق قبل كل شيء آخر، الزوج يجب أن يكون خلوقا في تعامله مع زوجته، والعكس مطلوب أيضا.
وأيهما أكثر أخلاقا من الآخر في تعامله، سوف يحصل على الأفضلية ويتفوق على الثاني، ويصح هذا المثال وبين الأم وابنتها، والأخت وأختها، والجار وجاره، وبين الأخ وأخيه وبين الصديق وصديقه، وطبعا بين الغرباء أيضا، المهم أن يتعامل الإنسان مع الطرف الآخر بأخلاق عالية تحفظ قيمته وكرامته وحقوقه وحدوده، أما الجانب العبادي وقضية الزيارات فهي مطلوبة أيضا لكن الأخلاق تتقدم عليها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(إذا كان أحد من الزوجين، أكثر عبادة وأكثر صلاة وأكثر صياماً وأكثر حجّاً وأكثر زيارة للمعصومين صلوات الله عليهم، وكان الآخر أحسن أخلاقاً، فلا شكّ أنّ الأخير هو الأفضل، سواء كان الزوج أو الزوجة. وهكذا بالنسبة إلى الأمّ والبنت، فالأفضل فيهما أحسنهما أخلاقاً، والأفضل بين أخوين الأحسن أخلاقاً، وهكذا بالنسبة بين أختين وشريكين وجارين، وبالنسبة إلى الأستاذ والتلميذ، والبائع والمشتري. أي الأفضل فيهم هو أحسنهم أخلاقاً).
فمن يريد أن يضمن الدخول في الجنة أسرع من الآخر، عليه أن يكون أعلى خُلُقًا منه، لأن الإنسان الأكثر أخلاقا يعني هو الأكثر قربا من النبي صلى الله عليه وآله، وأمر طبيعي أن الشخص الأقرب للنبي (ص) سيكون أقرب إلى الله تعالى، وهذه الدرجة من القبول والقرب تضمن له الجنة أسرع من غيره بسبب أخلاقه العالية.
أما الآخرون الذين يأتون من بعده في درجة الأخلاق، فإنّ عليهم الانتظار في صحراء المحشر حتى يحين دورهم في الحساب، ومن ثم النتائج التي لا يعلمها إلا الله تعالى، فقضية الحسم هنا تعتمد بشكل تام على درجة الأخلاق التي يحصل عليها الإنسان، فكلما ارتفعت أخلاقه صار أقرب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله ومن ثم أقرب إلى الله تعالى.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد قائلا:
(إذن، ليحاول كل واحد من الزوجين أن يكون هو الأحسن أخلاقاً، حتى يكون هو أفضل عند رسول الله صلى الله عليه وآله. فإذا كان أفضل عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فهو أفضل عند الله عزّ وجلّ، وهذا يعني أنّه يدخل الجنة قبل الآخر الذي عليه أن يبقى وينتظر دوره في صحراء المحشر).
كفاح الإنسان حتى يكون خلوقًا
تُرى كيف يمكن للزوج أن يكون أكثر وأعلى أخلاقا من زوجته، أو العكس؟، وكيف يمكن للأخ أن يتفوق على أخيه بأخلاقه؟، لكي يتم تجاوز مرحلة البقاء في صحراء المحشر.
هناك طريقة واضحة ومعروفة لكنها ليست سهلة من حيث التنفيذ، هذه الطريقة ينصح بها المرجع الشيرازي المؤمنين، وهي العزيمة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان المؤمن (الزوج، الزوجة، الأخ والأخت والأم والجار وكل الناس).
وهكذا فإن الجميع الذين ذكرناهم في أعلاه يمكنهم الخلاص من صحراء المعشر، وذلك بالتصميم والإرادة القوية، والعزيمة الثابتة، وبهذه الطريقة والتمسّك، يمكن للمؤمن أن يكون أرفع أخلاقا من الآخر، بعد أن يقرر ذلك ويصمم عليه بعزيمة وإرادة حازمة.
لهذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على:
(إنّ التوفيق في أن يكون الزوج والزوجة أحسن أخلاقاً يرجع إلى الأقوى عزيمة فيهما، والأقوى إرادة، وأقوى تصميماً، وأكثر تحمّلاً للمشاكل. وهكذا بالنسبة إلى الآخرين).
من القضايا المؤكَّدة أن انتشار وانتعاش الأخلاق في المجتمع وبين أفراد الأمة، يعني تماسك هذا المجتمع، وتآزره، وانحسار الظلم فيه، وتراجع نسبة الجريمة، بسبب ارتفاع مستوى الأخلاق، وبالتالي التزام المجتمع بحياة القيم، وهذا يعني شيوع قيمة الإنصاف، والعدالة، وتراجع الحيف الذي يلحقه الظالمون بالبسطاء، أو بالناس الآخرين.
هذا بالضبط ما ينتج عن التمسك بالأخلاق، وهو يعني فيما يعنيه بالإصرار الحقيقي للمؤمن في قضية التفوّق على الآخر في درجة الأخلاق، فليس الناس كلهم يمكنهم التحلي بدرجة عالية من الأخلاق، فهناك النفس التي تقف حجر عثرة، وهناك الطمع والجشع الذي يقتل إخلاق الإنسان، وهناك الضعف أمام كنز الأموال وهذ يضعف الأخلاق، كل هذه الأمور والنوازع يمكن أن تجعل الزوج أقل أخلاقا من زوجته، والجار أقل من جاره.
لذا فالمطلوب باختصار أن تتوفر الإرادة والعزيمة لكي يكون الإنسان أحسن أخلاقا من غيره، حتى يكسب درجة الفوز على منافسه في مجال التعاملات الأخلاقية مع الآخرين.
وهذا ما أكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين خاطب الحضور الكرام بالقول:
(التصميم والإرادة والعزيمة يعني بأن يكون كل واحد منكم وكل واحدة منكنّ هو الأحسن أخلاقاً، في العائلة، من أبيه وأمّه وأخته وأخيه، وهكذا بين الزوجين).
وأضاف سماحته مذكِّرا إياهم جميعا:
(إذا عزم الإنسان، يوفّق بعض الشيء. ففي الحديث الشريف عن مولانا الإمام الكاظم صلوات الله عليه: (إنّما هي عزمة) أي المهم هو العزم والإرادة والتصميم. فاعزموا واعزمن على ذلك، توفّقوا).
المهم في هذا الموضوع هو أنْ تنقذك الأخلاق من الانتظار مع الآخرين في (صحراء المحشر)، وشتان بين الإنسان الذي حُسِمتْ درجة نجاحه، وعرف مصيره النهائي، وبين إنسان لا تزال عيونه شاخصة، ولا يزال القلق يملأ كيانه وهو ينتظر مع جمع هائل في المحشر، فذلك الانتظار العصيب يمكنك التخلّص منه بالأخلاق، وهي تلك الصفة التي ميزّت الرسول الكريم حين وصفه الله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم) سورة القلم، الآية 4.
اضف تعليق