لا أعني بالصمت الخمول، الخمول غير الصمت، الخمول يعكس حالة انهزام، وشعور بفراغ مطلق، وانطفاء للمعنى بباطن الإنسان، وغرق الذات في بحر السأم والضجر والعدمية. كما أن الصمت الذي أتحدث عنه ليس مرضًا عضويًا يحتاج مراجعة طبيب مختص بالنطق، أو نوعًا من المرض النفسي والاكتئاب الذي يتطلب علاجًا...
بعض الأشخاص مصابون بما يشبه مرض يدعوهم للكلام المتواصل بلا انقطاع، لحظة يعثرون على من يستمع لهم، يشعر مَن يتحدثون معه كأن مهنة مثل هؤلاء الكلام لا غير. يتكلمون بلا مناسبة عن أي شيء بكلِّ شيء. عندما يهاتفون أحدًا أو يهاتفهم أحدٌ يتورط، يتكلمون بنبرة حادة وصوت مرتفع.
يصاب المستمع بالانزعاج من التدفق السريع الغزير لكلماتهم، وعدم تلقي ما يبهج أو ينفع فيها. لا يسمحون لمن يحدثونه بالجواب، يسألونه فيجيبون أسئلتهم، عندما يطلب منهم المستمع السماح له بالكلام ولو بجملة واحدة، يشاكسون بلا ذوق، ويتجاهلونه، من دون رعاية لمقامه وعلمه وعمره، وما تفرضه آداب المجالس من الانصات والتحدث. يشعر من يتحدثون معه كأن مهنة مثل هؤلاء الكلام لا غير، فيكون همّ مَن ينصت البحث عن طريقة لبقة للهروب وانهاء المكالمة.
يتعلم الإنسانُ من الصمت التغافلَ الحكيم، أحيانا يتورط الإنسان في جواب أشخاص لجوجين، بمجرد يتفوه بكلمة، يشغلونه في سلسلة هذيانات مملة، لا يتوقفون لحظة واحدة. هم يبحثون عن الشهرة والفات نظر الغير بأي ثمن، وهو يريد تركيز تفكيره وتكثيف قدراته للانشغال بعمله. بارعون في ترديد شعارات مبتذلة، فلو تورط مَن يصغي إليهم بجواب عقلاني، يواجهونه بردود أفعال عاصفة غير مهذبة. الصمت يعلّم الإنسانَ التغافل، وتجاهل كل مَن يحاول اشغاله بمعاركه الشخصية وانفعالاته وغضبه وهوسه. الصمت يخلق هالة تطرد عن الإنسان الشخصيات الطفيلية، وكلِّ مَن يعتاش على غيره، ويستنزف وقته وأمواله، وطاقته النفسية والعصبية والجسدية.
كثير من المشكلات تحدث في العائلة بين الزوجة والزوج تنشأ في فضاء مساجلات لفظية وأسئلة تافهة مكررة، وإلحاح ممجوج وتقريع بكلمات عشوائية، تصدر عن نوبات توتر عصبي وهيجان غاضب، إثر تأويل موقف أو سلوك أو كلمة خارج سياقها. أحيانًا يحاول كلا الزوجين الخروج من المأزق بمزيد من الكلام، وهو لا يدري أن أية كلمة يمكن أن تتوالد من سوء فهمها سلسلة لا تتوقف من ألفاظ الجدل العقيم، قد يتصاعد إلى سجالات تفوح منها رائحة كراهية منفرة، تنبعث مما هو مختزن ومتراكم لسنوات طويلة من مواقف خلافية مدفونة في أعماق الذاكرة، إلى الحد الذي تفجّر حالة من الصخب،كأنه كرة نار توقدها كلمات عنيفة. ربما تؤول إلى الطلاق، لو لم يبادر أحد الزوجين بإطفاء الحريق والكفّ عن الكلام.
كان أحد الأطباء يقضي يومه بين المستشفى والعيادة، ولا يصل البيت إلا بعد أن يمضي أربعة عشر ساعة، منهمكًا بتشخيص حالات المرضى في العيادة، وكتابة العلاج لهم، واجراء عمليات في المستشفى، تتطلب الكبرى منها ساعات طويلة من اليقظة والانتباه والدقة الحاذقة. لحظة يصل البيت تبدأ زوجته تتكلم بلا توقف، قبل الترحيب بقدومه، وتقديم الطعام له، وتأمين وسائل راحته.
يقول: كنت أجيب على أسئلتها المكررة المؤذية، وعتبها على كلِّ شيء، فينطلق لسانُها كشلّال هادر بغضب شديد. أحيانًا نستنزف الليل بجدل عقيم، لا ينتج إلا مزيدًا من الألم والاضطراب في البيت، وتأجيل وقت الهدوء والنوم الذي أنا بأمس الحاجة إليه. صار ذلك السلوك ينعكس بشكل مقلق على الأبناء، إذ أراهم يغرقون في حالة قلق ووجوم وذعر، مثلما كنت ألمحه حين تنطق فيه عيونُهم، وهي حائرة كأنها مصابة بحول، وتعبر عنه بحرقة آهاتهم المحبوسة.
نصحني معالج نفساني، بعد أن عرضت عليه المأزق الذي يختنق فيه بيتي، أن أصمت ولا أجيب عن أي سؤال، ولا أنطق بأية كلمة مع زوجتي بالبيت، وأدعها تهذي إلى أن ينهكها الإعياء.
بعد مخاض مرير من المعارك الكلامية الليلية التزمت بتوصية المعالج فورًا.كعادتها زوجتي تترقب وصولي، لتبدأ الكلام لحظة دخولي، وكأنها تبتهج عندما تصطاد طريدتها فتتلذذ وهي ترهقها بهذرها.
لم تصدر مني أية إشارة أو كلمة، تشي بالقبول أو الرفض أو الاستنكار لما تقول، وهي تصب كلماتها كسيل متدفق.
انشغلت بشأني الخاص، وحاولت تأمين ما أحتاجه من طعام وغيره، بلا أن أكلمها أو أطلب منها أي شيء. وإن فوجئت زوجتي بهذا الموقف الطارئ، إلا أنها استمرت في الليلة التالية على عادتها، وكانت تطالب بالجواب وأنا جامد كحجر.
تنظر لي بعينين ساهمتين، يعلنان الدهشة من سكوتي الغريب. في الليلة التالية لم تتوقف عن الكلام، اشتد إلحاحها على الجواب، وأحدثت صخبًا وضجيجًا، وواصلت سكوتي، فاضطرت أن تتلمس وجهي، وتحرك أطرافي، لم أتفاعل مع ذلك، وافتعلت عدم الاكتراث بما تفعل. انتابها قلق من إصابتي بالبكم، ورأيت عينيها تعرب عن شعور بذنب.
في الليالي الخمسة الموالية صار يقل كلامُها بالتدريج. أخيرًا صمتت، وتجهض بالبكاء، وتطلب أن أنطق ولو بكلمة واحدة، واصلت الصمت، فأعلنت انها نادمة على عبثها، وعدم اكتراثها بمتاعبي وعملي اليومي المرهق، وطلبت الغفران بتوسل ذليل استمر إلى النوم، وكررت طلب الغفران، والتعهد بعدم العودة لثرثرتها الليلية، وهي تجهش بالبكاء وتولول وتقسم: والله العظيم، أعرف أنا غير مهذبة، أنا عبثت بأمن العائلة وسلامها الضروري للعيش بمودة وتراحم، والله لو فعلت مرة واحدة في أية ليلة يمكنك التخلص مني وتطليقي.
لا أعني بالصمت الخمول، الخمول غير الصمت، الخمول يعكس حالة انهزام، وشعور بفراغ مطلق، وانطفاء للمعنى بباطن الإنسان، وغرق الذات في بحر السأم والضجر والعدمية. كما أن الصمت الذي أتحدث عنه ليس مرضًا عضويًا يحتاج مراجعة طبيب مختص بالنطق، أو نوعًا من المرض النفسي والاكتئاب الذي يتطلب علاجًا، أو الصمت الناشئ من الشعور بالخوف من الأفراد والمجتمعات والسلطات، أو من الشعور بالخجل، أو من الضجر والاغتراب الوجودي والاجتماعي.
وهكذا لا أعني الصمت الذي يشوبه هروب من الخارج والانطواء على الذات، ولا هروب الذات من الذات، فهذا نوع من الصمت يعكس حالة خواء واكتئاب، وسأم من كلِّ شيء حتى من الكلام. وهو مرض نفسي يتطلب عيادة نفسانية للشفاء منه.
أحيانًا ضريبة كلمات طائشة خسارة كلّ شيء، يظل الندم يطارد الإنسانَ كلّ عمره لو نطق بكلمات قاتلة في مقام يتطلب الصمت.
الصمت ينقذ الإنسان من الهلاك، كما نرى أثره في الخلاص من بعض الخصومات والأحقاد والعداوات والنزاعات والمعارك، وحتى من جرائم القتل، الناتجة عن كلمات متهورة وردود أفعال حمقاء، حين يعجز المتكلم عن التحكّم بلسانه.
لو صمت إنسانٌ في بعض الحالات دقائق معدودة لتخلص من التورط بجريمة قتل. استمعت إلى اعتراف يعلن فيه مجرم قتل أحد الشباب الأبرياء، إثر كلمات خرقاء صدرت لحظة غضب عنيفة.
يوصي هذا القاتل غيره بتجنب الكلمات النزقة المتهورة، وكظم الغيض، وردود الأفعال الخارجة عن السيطرة لحظة الغليان الداخلي.
يقول: عندما استمعت إلى أمرٍ من شخص لديه تخويل حكومي، يطلب مني الامتناع عن ممارسة عمل ممنوع بلا ترخيص من السلطات المسؤولة، اشتعلت أعصابي، وصرخت بكلمات هوجاء، وأنا في هذه الحالة اخرجت مسدسي وأطلقت النار فورًا على رأسه.
ثم يعقب هذا القاتل بحسرة ولوعة: لو كنت قادرًا على مسك لساني، والسيطرة على غضبي وكبته بداخلي دقائق معدودة، لتخلصت من ارتكاب هذه الجريمة الرعناء، والغرق في عار أبدي. أدركت بعد قليل أني أزهقت روحي لحظة أزهقت روح الضحية، قتلته إلا أني واصلت قتل نفسي كل يوم مادمت حيًّا، هكذا ضاعت حياتي بفعل فشلي في السيطرة على الصمت مدة قليلة جدًا.
مضافًا إلى احتراق ضميري بنزيف الخطيئة المزمن، ضاع حاضري ومستقبلي، وتحملت عائلتي بغيابي الأبدي عنها، وخسرانها لمصدر عيشها، ما لا طاقة لها على تحمله.
اضف تعليق