q
والقران انما هو طريق للتقدم من خلال منظومة القيم العليا التي يقدمها للمركب الحضاري للمجتمع. وعلى رأس هذه المنظومة توحيد الله ونبذ الشرك واستخلاف الانسان في الارض ومنها تنبثق قيم الحق والعدل والمساواة والاخوة والحرية والسلام والتعايش والتسامح والتعاون والشورى...

كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ".

هذا مقطع من سورة المدثر. وهي سورة "مكية من العتائق النازلة في أوائل البعثة و ظهور الدعوة"، كما وصفها صاحب الميزان السيد محمد حسين الطباطبائي. ومن اغراضها التعريف بالقران الكريم ودعوة الرسول محمد. 

والمقطع، بعد القسم، يعرّف القران بكلمة في غاية الكثافة والتركيز بانه جاء "نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ". واللافت في هذا التعريف هو الفعل "يتقدم"، وهو اساس مصطلح "التقدم" و "التقدمية"، المقابل لمصطلح "التأخر" او "التخلف" او "الرجعية".

يقول الطبري في تفسير الاية: "يقول تعالى ذكره : نذيرا للبشر لمن شاء منكم أيها الناس أن يتقدم في طاعة الله ، أو يتأخر في معصية الله."

ونقل عن ابن عباس قوله: "من شاء اتبع طاعة الله ، ومن شاء تأخر عنها." وعن قتادة قوله: "يتقدم في طاعة الله ، أو يتأخر في معصيته."

وقال في الميزان:"المراد بالتقدم و التأخر: الاتباع للحق و مصداقه الإيمان و الطاعة، و عدم الاتباع و مصداقه الكفر و المعصية. .. و قيل: و المعنى مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر، و هو كقوله. «فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر» و المراد بالتقدم و التأخر السبق إلى الخير و التخلف عنه".

وطاعة الله معيار للتقدم، لكنها ليست قيدا له. وهذا القيد من وضع المفسرين السابقين. والا فالقول الثاني لصاحب الميزان اقرب الى جو الاية، اي مطلق التقدم ومطلق التأخر.والا فان بعض مفردات التقدم محايدة بين الطاعة والمعصية كالطب والفلك وغيرهما، وإنْ كان القران الكريم يربط بين طاعة الله وتحقق الخير كما في قوله تعالى:"وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا" (الجن 16) وقوله تعالى:"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (الاعراف 96)

ولا يوجد تعارض او تضاد او تناقض بين الامرين. والعلاقة بينهما اشبه بالعلاقة بين الخاص والعام، او العلاقة بين المفهوم والمصداق. فالمهم هنا ان ندرك ونفهم ان القران الكريم دليل على طريق التقدم، او هو طريق التقدم. ذلك ان التقدم في المجتمع، بالمعنى الواسع للتقدم، بما في ذلك التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والازدهار والرفاه وتنمية الانتاج، انما يحصل اذا "استقام" المجتمع، بما فيه الافراد والمؤسسات والدولة، على "الطريقة"، وهي النظام القيمي والاخلاقي والتشريعي للمجتمع والدولة، والتي عبرنا عنها بمصطلح "القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري". 

ذلك ان انتاجية المجتمع وهي دليل على تقدمه مرتبطة ارتباطا عضويا مباشرا بعمل الافراد والجماعات، وهذا العمل هو انعكاس لكيفية التفاعل بين عناصر المركب الحضاري الخمسة وهي الانسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل. وهذه التفاعل يتم داخل وضمن ووفقا لمنظومة القيم العليا. فاذا كانت هذه المنظومة صالحة اصبحت انتاجية المجتمع صالحة، والعكس بالعكس. 

وهكذا نفهم قوله تعالى :"لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا". فالعلاقة بين الاستقامة وبين السقي بالماء الوفير ليست علاقة غيبية ميتافيزيقية فقط، وانما هي علاقة طبيعية ايضا. والقران يخبرنا انه طريق للتقدم، لمن شاء ان يتقدم، والقران انما هو طريق للتقدم من خلال منظومة القيم العليا التي يقدمها للمركب الحضاري للمجتمع. وعلى رأس هذه المنظومة توحيد الله ونبذ الشرك واستخلاف الانسان في الارض ومنها تنبثق قيم الحق والعدل والمساواة والاخوة والحرية والسلام والتعايش والتسامح والتعاون والشورى وغيرها. وبعبارة الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر:"ان المجتمع الذي تسوده العدالة في التوزيع …هو الذي يحصل على وفرة الانتاج". او هكذا فهم رحمه الله الايات المذكورة.

اضف تعليق