ما الذي يلزَمنا أَن نتسلَّحَ بهِ لنحوِّلَ حِواراتِنا إِلى مدارِسَ حقيقيَّةٍ تُنتِجُ المعرِفةَ والرِّجالَ والمشرُوعَ والأَدوات في آنٍ واحدٍ ما الذي نحتاجهُ لنغيِّر طبيعة ساحات الحِوار من حلباتٍ للمُلاكمةِ إِلى مجالِس للعلمِ والحبِّ والإِنسجامِ نحنُ بحاجةٍ إِلى الكثيرِ جدّاً مِن أَخلاقيَّاتِ الحِوارِ، ولكِن دعُونا هُنا...
{قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}.
ما الذي يجبُ أَن نفعلهُ لتكونَ قاعِدة {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} القُرآنيَّة هي الحاكِمة في حواراتِنا فلا أَحدَ يحتكِرُ الحقيقةَ معَ سبقِ الإِصرارِ ليتحمَّلَ بعضَنا البَعض الآخر ويقبلُ بعضَنا البعض الآخر بلا تزمُّتٍ وعصبيَّةٍ؟! ما الذي يلزَمنا أَن نتسلَّحَ بهِ لنحوِّلَ حِواراتِنا إِلى مدارِسَ حقيقيَّةٍ تُنتِجُ المعرِفةَ والرِّجالَ والمشرُوعَ والأَدوات في آنٍ واحدٍ؟! ما الذي نحتاجهُ لنغيِّر طبيعة ساحات الحِوار من حلباتٍ للمُلاكمةِ إِلى مجالِس للعلمِ والحبِّ والإِنسجامِ؟!.
نحنُ بحاجةٍ إِلى الكثيرِ جدّاً مِن أَخلاقيَّاتِ الحِوارِ، ولكِن دعُونا هُنا نشيرُ أَوَّلاً إِلى أَحدِ أَهمِّ هذهِ الأَسلحةِ والحدُودِ والأَخلاقيَّاتِ أَلا وهوَ [سِعةُ الصَّدرِ] كما في قولهِ تعالى {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}.
ما أَعظمَ هذا التَّصويرُ القُرآنيُّ العظيمِ، فإِذا كانَ الصَّدرُ مُنشرِحاً [إِنشرحَ صدرهُ لكَذا؛ سُرَّ بهِ وأَقبلَ عليهِ بحُبٍّ وشَغَفٍ، إِنشرحَ قلبُهُ لشَهادةِ الحقِّ] قبِلَ الرَّأي الآخر وبكُلِّ أَريحيَّةٍ ورُوحٍ رياضيَّةٍ وأَبدى استعداداً للتَّنازُلِ عن رأيهِ {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أَمَّا إِذا كانَ ضيِّقاً [مُنقبِضاً] فلا يتَّسِعُ إِلَّا لرأي صاحبهِ [إِن وُجِدَ لهُ مكاناً] فهو لا يقبلُ شيئاً أَبداً مهما كانت الحُجَّة {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} ولذلكَ يقولُ تعالى {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
وفي وصفِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) للمُؤمِنُ {الْمُؤْمِنُ بِشْرُه فِي وَجْهِه وحُزْنُه فِي قَلْبِه أَوْسَعُ شَيْءٍ صَدْراً وأَذَلُّ شَيْءٍ نَفْساً يَكْرَهُ الرِّفْعَةَ ويَشْنَأُ السُّمْعَةَ طَوِيلٌ غَمُّهُ بَعِيدٌ هَمُّهُ كَثِيرٌ صَمْتُهُ مَشْغُولٌ وَقْتُهُ شَكُورٌ صَبُورٌ مَغْمُورٌ بِفِكْرَتِهِ ضَنِينٌ بِخَلَّتِهِ سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ نَفْسُه أَصْلَبُ مِنَ الصَّلْدِ وهُوَ أَذَلُّ مِنَ الْعَبْدِ}.
حتَّى الشُّورى لا يمكِنُ أَن تتحقَّقَ عندَ أَصحابِ الصُّدُورِ الضيِّقة، لأَنَّ طبيعةَ الشُّورى تفرُض عليكَ الإِصغاءَ بتمعُّنٍ إِلى عدَّةِ آراءٍ وأَقوالٍ ثُمَّ تختارَ منها الأَفضلَ، فكيفَ سيستوعِب صدرَك الضيِّق كُلَّ هذهِ الآراء المُختلِفة ورُبَّما المُتناقِضة قبلَ أَن يختارَ أَحسنها؟!.
يقولُ تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}.
ولقد كتبَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) للأَشترِ النَّخعي لمَّا ولَّاهُ مِصر {ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِه الأُمُورُ ولَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ولَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ}.
ولقد كانَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) يُروِّضُ النَّاسَ ويُحرِّضهُم على الرَّأي والرَّأي الآخر بنسفِ المُصانعةِ وشدَّةِ الرَّسميَّاتِ بينَ الحاكمِ والرَّعيَّةِ لتجرُؤ على الإِدلاءِ برأيِها للحاكمِ من دُونِ خَوفٍ.
يقُولُ (ع) {فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِه الْجَبَابِرَةُ ولَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِه عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ ولَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ ولَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّه مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَه أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْه كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْه.
فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ ،أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ}.
والحِوارُ المُنتجُ هو الذي يُبدي فيهِ الطَّرفَانِ كاملِ الإِستعدادِ للتَّنازُلِ عن رأيهِ إِذا ثبُتَ لهُ صحَّة الرَّأي الآخر، أَمَّا الحِوار الذي يتخندَقُ فيهِ كُلَّ طرفٍ بمَوقعهِ لا يقبل أَن يتزحزحَ عنهُ مهما كانَت حُججِ الآخر قويَّة وعقليَّة ومنطقيَّة فلا يعدُو أَن يكونَ مِراءً كما يصفهُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) والذي نتيجَتهُ عادةً [صِفر] إِن لم تكُن بالسَّلبِ.
يقولُ (ع) {والشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ؛ عَلَى التَّمَارِي والْهَوْلِ والتَّرَدُّدِ والِاسْتِسْلَامِ، فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَ دَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ ومَنْ هَالَه مَا بَيْنَ يَدَيْه نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْه ومَنْ تَرَدَّدَ فِي الرَّيْبِ وَطِئَتْه سَنَابِكُ الشَّيَاطِينِ ومَنِ اسْتَسْلَمَ لِهَلَكَةِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ هَلَكَ فِيهِمَا}.
لكنَّ الغريبَ في الأَمرِ هوَ أَنَّك أَنتَ المطلوبُ مِنكَ دائماً أَن تتراجعَ وتتنازلَ عن رأيكَ وتستسلِمَ لِرأي الآخرينَ مهما سِقتَ مِن حُججٍ بالغةٍ دامغةٍ وأَدلَّةٍ عقليَّةٍ ومنطقيَّةٍ قويَّةٍ، فإِصرارُكَ [بتفسيرهِم] يعني أَنَّك طائِفيٌّ، وثباتُكَ يعني أَنَّك مُصمِّمٌ على شقِّ عصا الأُمَّة، ومُثابرتُك تعني أَنَّكَ تسبَحُ ضدَّ التيَّار وتُغرِّدُ خارِج السِّربِ والشَّاردةُ للذِّئبِ، وهكذا!.
وفي نِهايةِ المطافِ {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}.
طيِّب، لِماذا لم يفكِّر الآخر بالتَّراجُعِ والإِنسحابِ والإِستسلامِ والإِنصياعِ للحقِّ عندما تتَّضِح لهُ الأُمور؟! لماذا أَنتَ فقط ودائماً؟! أَلا يعني ذلكَ أَنَّ الذي يتحكَّم بالرَّأي العام ليسَ قاعِدة الحقِّ والباطِل أَو الصَّح والخطأ، أَبداً، وإِنَّما [الرِّجالُ] الذينَ يملِكُونَ أَكثر منكَ ويدفعُونَ أَكثر ممَّا تدفع، ويدِيرُونَ شبَكات الذُّباب الإِليكتروني أَكثرَ مِنكَ، وأُولئكَ هُم [المُترفُونَ] الذينَ يُسوِّقُونَ التَّافِهَ كمُفكِّرٍ لا يُشقُّ لهُ غُبارُ والجاهِلَ كعلَّامةٍ لعصرِهِ لا مثيلَ لهُ، وهكذا!.
يقولُ تعالى يتحدَّثُ عن هذهِ الظَّاهرة {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ۚ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقولهُ تعالى {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}.
والتَّحذيرُ القُرآني واضحٌ في قولهِ عزَّ مِن قائلٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ}.
اضف تعليق