q
الشكر للحال الحاضر، والزيادة للمستقبل، بمعنى؛ من لا يشكر و يغترّ بما عنده في يومه، فقد أغمض عينيه عن غده ومستقبله، فيكون أمام المفاجآت غير السارة والصادمة كما حصل لشعوب عدّة كانت تعيش الترف والرفاهية واذا بين ليلة وضحاها تصبح في عداد المشردين في الفيافي والبلدان...

"تغرّب عن الأوطان في طلب العُلا و سافر ففي الأسفار خمسُ فوائدِ

تفرّج همّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجدِ"

الإمام الشافعي

في بعض الاحيان توفر شيءٍ من المال والعلم وبعض الامكانيات يولّد لدى صاحبه شعوراً بالاعتداد، وشعورٌ آخر باختزال العالم في حياته الشخصية فلا يفكر بما حوله في الدائرة الصغيرة ضمن أسرته ومعارفه، ثم مدينته و بلده، وفي دائرة أوسع في البلاد القريبة منه، فلا شيء يقربه من هذه الدوائر سوى السفر والانتقال من مكانه والمربع الذي يعيش فيه الى مكان آخر ليكون لديه شعوراً جديداً من واقع جديد يلمسه بنفسه.

من حيث المبدأ، وكما قال الشافعي في أبياته الرائعة عما يكتسبه المسافر وهي خمساً: التجارة، والعلم، والآداب، وتفريج الهمّ، والتعارف، بيد أن الفائدة السادسة المستحدثة في الوقت الراهن؛ عرفان النعمة التي يحظى بها الانسان في بلده بينما يفتقدها آخرون في بلاد أخرى، مثل الأمن، والعمل، والمال، والخدمات بنسب معينة.

مسألة الشكر كمفهوم ديني، ومبدأ عقلي ووجداني معياره العرفان برجاء الاستزادة من الخير، سواء كان هذا الشكر من انسان يعيش في بيت مساحته خمسين متراً مربعاً، ويفترش الأرض يومياً ليعرض الخضار والفاكهة في سوق شعبي، أو من يسكن بيتاً كبيراً وفاخراً، ويعمل في مكان مرموق، مع دخل جيد، وسط ظروف معيشية لا بأس بها كالذي نعيشه في العراق.

وثمة قول متداول في العراق لا يخلو من حكمة: "المصيبة اذا عمّت هانت"، فالمريض –مثلاً- لن يشعر بالرضى بما فيه إلا عندما يرى من هو أمضّ من حالته المرضية، وبينما كنت في اتجول في العاصمتين: دمشق وبيروت في رحلة لزيارة المراقد المشرّفة هناك، تذكرت ما قاله أحد الاصدقاء أمضى فترة من الزمن للعلاج في بيروت، وبعد أن لامس الواقع الاجتماعي الصعب في لبنان: "إننا نعيش حياة الترف في العراق".

ليس فقط سوريا ولبنان شهدت الحروب الأهلية والضغوطات الخارجية، بل جميع دول المنطقة، وفي مقدمتها؛ العراق، وهو غني عن التعريف بما لاقى من فجائع ومعاناة طيلة عقود من الزمن، بيد أن العراق يمتلك مقومات النهوض وامكانيات التطور والتغيير أسرع من غيره بفضل ثرواته المتعددة الاشكال؛ من زراعة وصناعة، ونفط، ومعادن، الى جانب القدرات الانسانية، ثم ثروة المعنوية الأعظم في وجود مراقد مقدسة تخلق الحيوية المستدامة على هذه الارض، مما جعل العالم يُقر أن الحياة في العراق أقوى من الموت، فرغم ما حصل وجرى على الشعب العراقي، فهو متفائل، ومتفاعل، ومتطلع الى المستقبل بنسبة كبيرة قياساً بشعوب أخرى تفتد هذه الخصوصيات، لاسيما الفقيرة من حيث الموارد المالية، فيمكن قراءة البؤس في وجوه الكثير من الناس وأنت تتجول في لبنان وسوريا، حتى المتعففين الذين {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً}، وفي رحلة الى بلد آخر منذ عدة سنوات قال لي صديق هناك: الناس هنا ليسوا كما تعوّدت في العراق؛ فالكآبة واليأس تخيّم على وجوههم لشدّة المحن والضغوطات المعيشية عليهم.

ومن أكثر المفارقات في الازمات التي نعيشها نحن في العراق وفي البلاد المحيطة بنا؛ الكهرباء، فهي أزمة مستديمة أشبه بالمرض العضال، وحالها غير مرضٍ بالمرة، بينما من يزور سوريا ولبنان ويتذكر ما لديه في العراق سيشعر بالفارق الكبير بين حجم الازمة التي يعيشها وما يعيشه الآخرون، وكيف أن الظلام يخيّم على عاصمة راقية مثل بيروت مع هبوط قرص الشمس، فلا مصابيح تضيئ للسلع المعروضة في المتاجر ليلاً، بينما في العراق بإمكان بائع متجول للحلوى إضاءة عربته الصغيرة بمصابيح تجعل من مكانه شمساً ساطعة تجذب الزبائن من مئات الامتار.

ليس في سوريا ولبنان مولدات أهلية لانتاج الطاقة الكهربائية، فالمواطن هناك يتكفل بنفسه بانتاج الكهرباء من خلال منظومة الخلايا الشمسية الباهضة الثمن لتوفير طاقة للإنارة على الأقل، وهذا يشمل البيوت والمحال التجارية، فلا يوجد شيء اسمه مجمدات تحفظ المواد الغذائية مثل اللحوم، بل حتى الصيدليات تعتذر عن تقديم أدوية لامراض مزمنة مثل السكري، لحاجة الانسولين الى التبريد، وحتى وإن حصل عليها المريض، فانه يواجه صعوبات جمّة في الاحتفاظ بهذا الدواء الحساس إزاء درجة حرارة عالية.

ومعاناة أخرى مع الوقود والمحروقات بشكل عام، مثل غاز الطبخ، ووسائل التدفئة والاستحمام في فصل الشتاء القارص، كل هذه تجعل من الحياة غاية في الصعوبة والتعقيد، ولو أن الانسان في كل مكان يمتلك خاصية التكيّف ومقاومة التحديات ليعيش حياته بأي شكل من الاشكال، بيد أن هذه الضغوط تترك آثارها على النفس والسلوك والتفكير لا محالة، وكلما كانت الضغوط أشد، والبدائل أقل، كانت الآثار أعمق سوءاً في الحاضر والمستقبل.

مع ذلك؛ فان المواطن السوري او الموطن اللبناني اذا ما عرف بأناس يعيشون الجفاف والفقر والتخلف والحروب الاهلية المستمرة لاسباب مختلفة، سيجد انه يمتلك مقومات حياة أفضل قياساً بالآخرين.

وهكذا، اذا تولدت مشاعر من هذا النوع لدى الشعوب ستوفر أهم عامل تطور وتقدم في مسيرتها التنموية عندما توظف ما لديها من امكانات وقدرات لتجاوز مرحلة الازمة وخلق فرص للتقدم، ففي تجارب الشعوب والأمم المتقدمة صناعياً لا مجال للتبرّم والشكوى مهما كانت الظروف، لان افراد المجتمع لا يعيشون يومهم المليئ بالازمات والمنغّصات، وإنما يتطلعون دوماً الى الغد، وما فيه من بدائل وحلول، ولعل هذا يضيئ لنا جانباً من كلام الله المجيد في الآية الكريمة والجميلة: {لأن شكرتم لأزيدنكم}، فالشكر للحال الحاضر، والزيادة للمستقبل، بمعنى؛ من لا يشكر و يغترّ بما عنده في يومه، فقد أغمض عينيه عن غده ومستقبله، فيكون أمام المفاجآت غير السارة والصادمة كما حصل لشعوب عدّة كانت تعيش الترف والرفاهية واذا بين ليلة وضحاها تصبح في عداد المشردين في الفيافي والبلدان.

اضف تعليق