كل حضارة متقدّمة لا تخشى التهديد لأمنها الثقافي، ولك أن تتذكر إقدام فلاسفتنا المسلمين على الفلسفة اليونانية، فقد كانوا هم أصحاب الحضارة والممسكين لهويتهم وتأمينها من العارض والطارئ، وحينما أقبلوا على الفلسفة اليونانية كان نزوعاً نحو تقديم الأفضل لمجتمع مُقبل على العلم لا تهديد فيه لهويته الثقافيَّة...
قد يرتبط عندنا؛ نحن الجيل الذي عاش أيام حكم الديكتاتور، مفهوم الأمن بكل ما يروعنا ويهز أمننا، وكلما سمعنا مفردة أمن دخلنا في حلة رعب وخوف وهلع، وكأن هناك من يسترق السمع خلف الأبواب أو خلف الجدران، سيشي بكل ما تحدثنا به للأجهزة الأمنية التي لم تكن مهمتها حماية أمن المجتمع، بقدر ما كانت حماية أمن الحاكم.
حتى مفهوم (الأمن الاقتصادي) يرتبط عندنا بأجهزة قمعيَّة مهمتها تنفيذ توجيهات جلاوزة (الحزب القائد) ومراقبة التجّار والباعة الذين قد يحتكرون سلعة ما بقصد الربح، ولكن المراقبة لهم لا لأنَّهم يهدّدون الاقتصاد المجتمعي، بل لأنَّهم قد يُنافسون أزلام النظام السابق في السيطرة على التجارة المحليَّة. ولأذكركم بحادثة إعدام كبار التجّار العراقيين أيّام الحصار 1992، بتهمة تخريب الاقتصاد، على الرغم من أن الأسعار ازدادت للضعف بعد إعدامهم.
ما زلت حينما أسمع لفظة (أمن) أشعر بأنَّ هناك لغة تهديد تستخدمها السلطة للتخويف، ولكن مفاهيم مثل: (الأمن الاقتصادي) و(الأمن الاجتماعي) و(الأمن الثقافي) و(الأمن السيبراني) وفق الثورة المعلوماتية اليوم، صارت مفاهيم لها أهميتها في الحفاظ على (الهوية الوطنية) و(السلم المجتمعي)، وهي جميعاً مفاهيم مرتبطة بما يُسمّى (الأمن القومي) المرتبط بـ (الأمن الوطني).
ماذا يعني الأمن الثقافي؟
من وجهة نظري يعني الأمن الثقافي الشعور بالاطمئنان النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفكري الذي يجعل المواطن في دولة ما يشعر بالانتماء لهويته الوطنية برغم كل التحدّيات الخارجية، وهذا الأمر لا يتحقق إلا حينما تستطيع الدولة مواجهة هذه التحديات وفرض هويتها الثقافية (الوطنية) لتكون هي الهوية التي يعتز ويفتخر أبناء الوطن الواحد أنّهم ينتمون لها، وكل انتماءاتهم الجماعاتية إنَّما هي تمظهرات وتشكلات فرعية من فيض هذه الهوية.
في مجتمع مثل العراق متعدّد الانتماءات، تكون مهمّة الدولة تنمية الهوية الوطنية، لا بالشعارات ولا الخطابات الجوفاء، بل بالكشف عن عناصر تشكّل (الهوية العراقية) التي أجاد صناعتها مثقفون وعلماء عراقيون من الطيف العراقي، فأنت عراقي تعرف قيمة (الأمن الثقافي) حينما تجد شاعراً مثل السياب من البصرة والبريكان والحجاج، وقد تختفي جذورهم الطائفية، والجواهري من النجف، ولميعة عباس عمارة وحسب الشيخ جعفر، وأول رئيس لجامعة بغداد من ميسان، والكبار فيهم من الصابئة، وطالب القره غولي ومن قبله ناصر حكيم وداخل حسن وحضيري أبو عزيز وعريان السيد خلف من الناصرية أو محافظة ذي قار.
ما زال يشعل شعر (بلند الحيدري) الشاعر الكردي الأصل الذي وصفه بعض قرّائه بأنَّه (شاعر المرأة) بعد أن تمرّد على حياته الأرستقراطية ويعيش قريباً من حسين مردان، الشاعر الوجودي المتمرد ابن ديالى صاحب ديوان (قصائد عارية).
قد يكون لجميل صدقي الزهاوي ذي الأصل الكردي بعض تأثير على (بلند الحيدري)، فالزهاوي كان من أصل أرستقراطي، ورائد من رواد الحركة التحرّرية في العلم العربي. بعضهم وصف شعر (بلند الحيدري) النسوي وكأنه يُقارب شعر (نزار قباني).
من السماوة شاكر السماوي وناظم السماوي، ومن بغداد حاضرة الدنيا، ومن الأنبار عدد ما شئت من العلماء والمفكرين.
كان الرصافي الشاعر والمفكّر هو ابن مدينة الفلوجة التي كتب بها كتابه الأشهر (الشخصية المحمديَّة)، ولأذكر مدني صالح فيلسوفاً وحكيماً، لا تشغله غير الهوية الوطنية فكان مثالها الأجلى.
وفي صلاح الدين كان لي في حسام محيي الدين الآلوسي مثال المفكّر والعالم الذي تعلّمنا منه أنَّ الفلسفة فكر حر لا يختص بطائفة ما ولا بدين ما، إنما هو فكر عقلاني نقدي.
لست في معرض تعداد المؤثّرين في الحياة الثقافية العراقية، وكل محافظة عراقية فيها من المبدعين الكثير الكثير.
لأرجع لمفهوم الأمن الثقافي، الذي أجده مرتبطاً بالخصوصية الثقافية التي يصنعها من أشرت لهم ولغيرهم ممّن أثّروا الحياة الثقافية العراقية بالأدب والفن والموسيقى، وهم بكل مُتبنياتهم الفكرية، تمكّنوا من صناعة (هوية وطنية عراقية) يُمكن لنا أن نقول: إنَّهم تمكّنوا من تجسير هذه الهوية على الرغم من اختلاف متبنياتهم، ولكنَّ الهاجس الوطني وشعورهم بالانتماء المواطني جعلهم بناة (الهوية الوطنية) التي تجاوزت تكوينات (الهوية الفرعية) في نتاجهم الإبداعي الذي صنع هوية عراقية ما زلنا نستمد منها قوّتنا في الاعتزاز بهويّتنا الثقافية والحضارية التي صنعها عراقيون يعرفون معنى (الأمن الثقافي) وإن لم يستخدموا هذا المفهوم، ولكنَّهم جسّدوه في نتاجاتهم الإبداعيَّة.
مثال الالتزام بالأمن الثقافي ما أنتجه فلاسفتنا في العصر الوسيط، فكانوا خير رسل للمعرفة والانفتاح المعرفي و(الانهمام) بعلوم المتأخرين، ولكنَّهم في الوقت ذاته صنعوا لنا هويتنا الحضارية والثقافية التي ما زلنا إلى يومنا هذا نعتز بها، لأنَّهم أجادوا خلق (الأمن الثقافي) من دون شعور بالدونية من (الآخر) المختلف و(المتقدم)، ومن فيض سماحتهم وجدناهم يدعوننا للإفادة من علوم الأمم المُغايرة لنا في الملّة، لأنَّهم يثقون بمعارفهم وبما يُقبلون عليه منها وما يرفضوه.
كل حضارة متقدّمة لا تخشى التهديد لأمنها الثقافي، ولك أن تتذكر إقدام فلاسفتنا المسلمين على الفلسفة اليونانية، فقد كانوا هم أصحاب الحضارة والممسكين لهويتهم وتأمينها من العارض والطارئ، وحينما أقبلوا على الفلسفة اليونانية كان نزوعاً نحو تقديم الأفضل لمجتمع مُقبل على العلم لا تهديد فيه لهويته الثقافيَّة.
اضف تعليق