وكما يبدو أن هناك خيطاً دقيقاً، يفصل بين منهج التوفيق المتبع عند العديد من المدارس الفلسفية والفكرية والسياسية، وبين التلفيق الذي هو عبارة عن صناعة نظرية أو مقولة قائمة في بنيانها على طيف فكري أو سياسي متنوع، دون ملاحظة الصلة الجوهرية، التي تربط بين عناصر هذا الطيف. فالتلفيقية تأجيل...
منذ صدمة الغرب والحضارة الحديثة، والعرب مجتمعاً وسياسة واقتصاداً يعانون الثنائية في كل شيء، بين طرف يدفع بكل الأمور والقضايا، تجاه الارتباط الهيكلي والتام بالنموذج الجديد للحداثة والحضارة، وطرف آخر، يريد للواقع العربي فيما هو عليه، والانكفاء عن الاستجابة (بصرف النظر عن نوعية الاستجابة) لتحديات الواقع والظرف الجديد.
واستمرت هذه المماحكة والصراع، عبر تاريخ العرب الحديث، واتخذت صيغاً مختلفة، وتطور مضمونها وآليات عملها في الساحة العربية، إلا أن مبتدأها واحد، وهو كيف نوفق بين ضرورات مختلفة (تصل في أحايين كثيرة إلى حد التناقض والتصادم) يحتاجها العالم العربي، ولا يمكن أن يستغني عن أحد هذه الضرورات، فهو لا يمكنه الاستغناء عن معاصرته ومواكبته إلى تطورات العلم والمنجز الإنساني الحديث. كما أنه في ذات الوقت، لا يمكنه أن يتواصل مع هذا العلم والمنجز وهو فاقد لذاته العقدية والثقافية، لأنه سيتحول إلى لاهث بلا بوصلة، وطامح بلا إمكانات اجتماعية وذاتية، لتحقيق هذا المطوح.
فتاريخنا العربي الحديث، هو عبارة عن مدافعة مستمرة بين هذه الأطراف، والقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تمثلها، فتعددت آليات المدافعة وعناوين الصراع، إلا أن الجوهر والمضمون الأول واحد.
وكما يبدو أن هناك خيطاً دقيقاً، يفصل بين منهج التوفيق المتبع عند العديد من المدارس الفلسفية والفكرية والسياسية، وبين التلفيق الذي هو عبارة عن صناعة نظرية أو مقولة قائمة في بنيانها على طيف فكري أو سياسي متنوع، دون ملاحظة الصلة الجوهرية، التي تربط بين عناصر هذا الطيف.
فالتلفيقية، تأجيل للصراعات وتجميد لآلياتها، وتجاوز واع للمتناقضات الفكرية أو السياسية.
أما التوفيقية التي ان توفرت شروطها الذاتية والموضوعية، والتي سنأتي على ذكرها في مكان آخر، هي وسيلة من وسائل تنظيم الصراعات، دون إلغائها، وتوجيه عوامل الصراع في تجاه بنائي، لا العمل على كبتها.
والتعريف الذي يطرحه الدكتور (محمد جابر الأنصاري) في كتابه الموسوم بـ"الفكر العربي وصراع الأضداد" عن الجدلية والتوفيقية، يؤكد لنا أن مضمون المصطلح الأخير، هو ما نقصده بالتلفيق.
ولعل في التوفيقية الواعية، وهو ما يقصده الدكتور الأنصاري بمضمون التعددية، إذ يقول: وحتى من وجهة جدلية (ديالكتيكية) فإن صراع الأضداد لا بد وأن ينتهي إلى مندمج جديد في نهاية العملية الجدلية القائمة (إذا لم يتم تجميد الجدل بفعل عوامل خارجية أو داخلية قسرية كما يحدث غالباً في المنطقة العربية). والفارق بين التوفيقية (التوحيدية) والجدلية (التعددية)، أن الأولى تعمد في توليفتها إلى التقريب بين الأضداد بتجاوز عوامل الصراع وجوانب التناقض، وكبتها. ثم البحث عن مواضع الاتفاق ما أمكن. أما الثانية فإنها تتطلب المرور داخل نفق الاصطراع ذاته إلى أن يتولد المندمج الجديد بعد أن يأخذ الصراع مداه. ويتولد من الضدين شيء جديد يختلف عنهما معاً، ولا يمثل توليفة يتجاوران أو يتقاربان فيها لبعض الوقت كما حدث في الصيغ التوفيقية التي شهدتها المنطقة العرقية فيما عرف بالاتجاه القومي الوسطي بروافده المتعددة.
والصراع الذي يشهده العالم العربي، اليوم بين القوى الأصولية، والقوى العلمانية، لا يرجع في جوهره النظري والفكري، إلى فشل محاولات التوفيق التاريخية بين هذه القوى، وإنما يرجع إلى العديد من العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية (لسنا هنا في صدد بيانها).
إلا أنه من المستبعد القبول بمنظور فشل صيغ التوفيق المستخدمة في التاريخ العربي، هو الذي أدى إلى بروز هذا الصراع من جديد.
وانشغال الفكر العربي الحديث، بثنائيات العقل والإيمان، العلم والدين والتراث والمعاصرة، الدين والقومية، القومية والقطرية، العدل والحرية، الرأسمالية والاشتراكية، الشرق والغرب، القديم والجديد.... إلخ. فإنه يرجع إلى العوامل التالية:
1) الفوضى المنهجية السائدة في الوسط الفكري العربي، إذ أنه منذ الصدمة الحضارية الحديثة، وهو يكرر هذه المقولات والثنائيات، ليس بحثاً عن توفيقية راشدة، تؤهله من الاستفادة من المنجز الإنساني الحديث.
وإنما هذا التكرار المميت، هو بفعل غياب المنهجية النظرية الواضحة، التي تجيب على أسئلة الواقع العربي الراهن، وتخرج من إسار هذه الثنائيات.
فالمجتمع الذي لا يمتلك منهجية واضحة. للتعاطي مع واقعه وقضاياه، فإنه سينشغل في قضايا وأمور، أقل ما يقال عنها أنها ليست ذات أولوية في مسيرة المجتمع.
2) وإن المجتمع حينما يعجز عن الوصول إلى حل ناجع لمشاكله، فإنه يبحث في ثنائية نظرية، يقيم بينهما التعارض، وينشغل في فك اللغز الذي صنعه بنفسه. فالتناقض بين ثنائة الدين والقومية، لم تكن موجودة إلا في ذهن النخبة التي ضخمت هذه المشكلة في ظروف معينة. وأخذت تكتب وتصيغ الحلول والمعالجات لهذا التناقض الموهوم.
كما أن المواطن العربي العادي، لم يشعر في أي يوم من الأيام، يتناقض بين قوميته وقطريته، بين عروبته ووطنيته، فعجز النخبة عن معالجة إشكالية الواقع الحقيقية، هو الذي دفعها إلى التعاطي مع هذه العناوين، وكأنها عناوين متناقضة مع بعضها البعض، لا يمكن الجمع بينهما، وإنما لا بد من المقايضة بين هذه العناوين. وهنا توزعت القوى الاجتماعية وانفرزت اعتماداً على اختياراتها الآنفة.
وهذا بطبيعة الحال، لا ينفي أن في بعض الفترات التاريخية، كان الواقع الاجتماعي العربي، يبحث عن صيغة التوفيق بين هذين العناوين.
ولكن هذا لا يدفعنا للقبول المطلق، بمقولة ان انشغال الفكر العربي الحديث، هو من أجل التوفيق بين هذه العناوين لأن مقتضى التناقض بين هذه العناوين، هو دفع الجمهور إلى الفرز والمقايضة بين هذه العناوين لا التوفيق بينها.
3) عدم الوعي بأوليات الواقع.. إذ أن غياب هذا الوعي، هو الذي يدخل الساحة في صراعات وانشغالات ليست ذات أولوية، فالمجتمع الذي يعاني من التخلف الشامل، ولا يدرك أوليات العمل للنهوض بالواقع، ودحر أسباب التخلف، هو الذي يصنع واقعاً اجتماعياً وثقافياً، لا ينشغل بأوليات أموره. وإنما يبذل جل جهده وطاقته، في أمور وقضايا ليست ذات أولوية لمعالجة مشاكله. وتجاوز صعابه، فالتلفيقية هي الظاهرة التي ينبغي تشخيصها في الواقع العربي. لأنها تشكل أخطر نزعة فكرية. وسمت الفكر العربي بطابعتها، الأمر الذي يتطلب فهماً متعمقاً لها، ولأسباب انتشارها وتأثيرها البالغ في مجمل الحياة العربية.
وإن تجاوز هذه المعضلة، لا يتحقق عن طريق التكيف مع التخلف ومفاعيله المختلفة، لأن هذا التكيف، يعيد انتاج التخلف تحت مسميات ويافطات جديدة.
كما أن التجاوز لا يتم عن طريق الاستنساخ الحرفي لنمط الغرب وعقلانيته، التي حاول ولايزال أن يعطيها بعداً معيارياً، بحيث تكون هي المساوقة إلى العقل.
إننا نرى أن تجاوز الأزمة يتم عن طريق: إعادة صياغة الإنسان والجماعة العربية والإسلامية وفق القيم العليا الخالدة، متجاوزين كل رواسب الانحطاط والتخلف.
والتجاوز هنا لا يعني عدم الاستفادة من الفهم البشري للقيم الكبرى، ولكنه يعني أن لا نجعل هذا الفهم سقفاً نهائياً لتداعيات القيم الكبرى أو الصيغة العملية الوحيدة لترجمة تلك القيام إلى برامج ووقائع إنسانية، وإن صياغة الإنسان والمجتمع، وفق القيم العليا، هو الذي يؤسس لحضور الإنسان في الحياة، لأن الغياب الطوعي أو القسري للإنسان والجماعة عن شؤونها ومصيرها ومستقبلها، هو العقبة الأساسية التي تحول دون تجاوز إنساننا العربي والإسلامي لمعضلاته الجوهرية.
ولا شك أن صياغة عقليته وفكره من جديد، هو الذي يدفعه إلى الحضور الاجتماعي والثقافي، بحيث انه يتحول إلى طاقة خلاقة في سبيل تجاوز الأزمات، وتحقيق الغد الأفضل.
ولا بد من القول في هذا المجال أيضاً، أن صياغة الإنسان العربي والمسلم، وفق قيمه الإسلامية الكبرى، سيوفر عناصر ضرورية لصناعة التاريخ وهي:
1.علاقة واعية وراشدة مع التاريخ، بحيث لا يتحول التاريخ إلى سجن بحبس الإنسان نفسه فيه، وإنما هو وعاء يحتضن التجربة العربية والإسلامية عبر التاريخ المديد.
والعلاقة الراشدة مع هذه التجربة، هي التي تجعل إنسان الحاضر، يستفيد الاستفادة القصوى من حركة التاريخ وتجاربه.
2.علاقة حضور وشهود على الواقع والحاضر، بدل الهروب والانسحاب من شؤون الراهن وقضاياه.
فإزالة عناصر التخلف في نظرتنا إلى تاريخنا وراهننا، لا تتأتى إلا بتغيير ثقافتنا تجاهها، فلا يعقل لمن يمتلك ثقافة سببية أن ينظر إلى التاريخ مجموعة حوادث خارقة، كما أنه لا يمكن لمن يمتلك ثقافة مسؤولة، أن يبتعد عن شؤون راهنة، ويتهرب من تحديد موقف واضح من أموره ومسائله.
لهذا فإن تغيير ثقافة الإنسان، ونظرته إلى نفسه، وإعادة الثقة في ذاته، وإنها قادرة على انهاء واقع التخلف وتجاوز الصعاب، هي القاعدة الضرورية لخلق الوعي الرشيد في علاقتنا وتاريخنا، والالتزام بموقف مسؤول تجاه الراهن الذي يعيشه.
لهذا كله: فإن تغيير ثقافة الإنسان، تبقى مسألة ضرورية لازالة عناصر التخلف وآثاره من جسم الأمة.
فالشيء المهم هو بناء الإنسان وفق نسق فكري ـ ثقافي ناهض، ومضاد لكل مفاهيم وعناصر التخلف الحضاري.
وبدون ذلك، لا يمكننا التغلب على التخلف في واقعنا الخاص والعام.
اضف تعليق