فوجىء كثير من العراقيين برسالة نصية على هواتفهم تسأل «هل انت مع استمرار مهمة التحالف الدولي في العراق»؟ في نفس الوقت انتشرت رسائل مماثلة عبر مجاميع الواتساب مع عبارة تحث العراقيين على التصويت لاخراج المحتل. جاز لنا تسميته أستطلاعاً للرأي العام، لا تمت بأي صلة للمنهجية العلمية...

فوجىء كثير من العراقيين برسالة نصية على هواتفهم تسأل «هل انت مع استمرار مهمة التحالف الدولي في العراق»؟ في نفس الوقت انتشرت رسائل مماثلة عبر مجاميع الواتساب مع عبارة تحث العراقيين على التصويت لاخراج المحتل.

وبالقدر الذي أفرحني كمختص بدأ تطور ثقافة أستطلاعات الرأي العام كأحدى ركائز الديموقراطية في أي بلد، الا أن الصيغة والمنهجية المستخدمة في هذا الاستطلاع بالذات، أن جاز لنا تسميته أستطلاعاً للرأي العام، لا تمت بأي صلة للمنهجية العلمية التي يجب على أستطلاعات الرأي أن تلبيها.

وكأول باحث نفذ أستطلاع للرأي العام في العراق بعد أسابيع قليلة من أحتلاله عام 2003، وكمدير للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أكبر وأهم وأقدم مؤسستين مهنيتين لبحوث الرأي العام في العالم (الجمعية الدولية لأستطلاعات الرأي العام WAPOR ومؤسسة كالوب الدولية Gallup International ) وكممثل للعراق فيهما لا بد من أيضاح بعض الحقائق عن أستطلاعات الرأي العام والتي تبين للقارىء أن الأستطلاع المشار له لا يعدو كونه أداة دعائية أكثر منها أداة مهنية.

أبتداءً حاولت أن أبحث في قاعدة بيانات مؤسسات أستطلاع الرأي العام العراقية المسجلة في أي من المنظمات المهنية الدولية المختصة في أستطلاعات الرأي العام فلم أعثر على أسم المركز العراقي لقياس الرأي والذي ورد أسمه في الرسائل التي أُرسلت للمواطنين كمسؤول عن هذا الأستطلاع.

أما في العراق فلم أجد سوى صفحة تحت نفس الأسم ولكن على الفيسبوك وبدون موقع رسمي. والأغرب أن الصفحة تذكر أن هذه الرسالة التي أُرسلت للمواطنين ليست صادرة منهم! وعند الضغط على الرابط المرسل في الرسالة النصية فيتم الدخول الى موقع منصة (بوابة أور) للخدمات الحكومية وهي منصة مختصة بالخدمات الحكومية المختلفة كالكمارك والتقاعد والأسكان وغيرها وليس لها أي علاقة بأستطلاعات الرأي. لكن من الواضح تبعاً لذلك أن من قام بهذا الأستطلاع أو أرسله للمواطنين هو جهة حكومية مرتبطة برئاسة الوزراء. هنا تثار كثير من الأسئلة المهنية والموضوعية.

أفهم أن صناع القرار في الحكومة قد يرغبون في معرفة رأي الشارع بمثل هذا القرار الأستراتيجي المهم، على الرغم من أن المواطنين لم تتم أستشارتهم أساساً حين جُلبت قوات التحالف للعراق. لكن من يريد أستشارة الناس فعلاً، وليس دعايةً فعليه أن يفعل ذلك بالطريقة الصحيحة.

فمثلما لا يصح أن تذهب للحلاق لتطلب منه دواءً أو أستشارةً في الطب فلا يصح أن تستشير جهة غير مختصة لتنجز لك أستطلاعاً للرأي تبني عليه مثل هذا القرار الأستراتيجي لتحمّل المواطنين تبعاته في حال ظهرت نتائج الأستطلاع بهذا الأتجاه أو ذاك. أن الخطأ المهني الأول هو في صياغة السؤال. فكم هي نسبة العراقيين التي تعرف معنى عبارة «مهمة قوة التحالف» في شعب تصل فيه نسبة الأمية أو من يقرأ ويكتب فقط الى أكثر من ثلثه ! في مثل هذه الحالات نلجأ كمختصين لسؤال الناس أن كانوا يعرفون أساساً بوجود قوات التحالف،ثم نسألهم ما أذا كانوا يعلمون ما هي مهمة تلك القوات.

الخطأ الثاني في صيغة السؤال أنه يسأل سؤالين في سؤال واحد أذ يقول «هل تؤيد أنهاء مهمة قوات التحالف الدولي في العراق وكيف؟

ان أول مبدأ من مبادىء أسئلة الأستطلاعات هو تجنب السؤال عن أكثر من متغير (أنهاء المهمة و كيف) في سؤال واحد .علمياً فأن هذا السؤال يجب أن يقسم الى سؤالين الأول عن أنهاء المهمة والثاني عن الكيفية،كما يجب أن يعطى المجيب خيار»لا أدري أو أرفض الأجابة» فهذا الخيار تشترطه المعايير الأخلاقية لمؤسسات الأستطلاع المهنية كي لا تحرج المجيب وتجبره على أبداء رأيه في الوقت الذي يخشى أبداء رأيه أو لا يريد أظهاره لأي سبب. ثم ماذا عمن يريد أنهاء المهمة لكن بعد أستقرار العراق مثلاً،أو بعد القضاء على داعش،أو غير ذلك من الأحتمالات التي تم أهمالها قصداً وأختصارها لخيارين يخصان الخروج وخيار واحد يخص البقاء!

أما من حيث المنصة المستخدمة في الأستطلاع فلا يحبذ علمياً ومهنياً أن تستخدم منصة الزبون المستفيد من الأستطلاع في استطلاع رأي العامةِ به. أن ذلك أشبه بقيام شخص بسؤال الناس علناً عن رأيهم فيه. نعم هناك من سيقول رأيه بصراحة لكن علمياً ونفسياً فهاك كثيرين ممن سيجاملون في رأيهم بسبب ما يسمى بالمرغوبية الأجتماعية وعدم الرغبة بالظهور بمظهر غير المهذب.

مع ذلك فأن كل ما قلته من أخطاء سابقة -رغم عدم ذكري لها جميعاً- بكفة والخطأ العلمي الأحصائي في مثل هذه الوسيلة لأستطلاع الرأي بكفة أخرى. أبتداءً يعرّف الرأي العام بأنه رأي كل مواطن بالغ في البلد،وهو يعني كل من تجاوز عمره 18 سنة بغض النظر عن خلفيته الديموغرافية والأجتماعية. ولأننا في العراق نعلم أن كثيرين ممن هم أقل من 18 سنة يمتلكون هواتف فهذا يعني أن نسبة من الأجابات ستكون لغير المؤهلين بالأجابة.

ثانياً، مع وجود نسبة أمية من 15-20 بالمئة من العراقيين البالغين فهذا يعني أن نسبة كبيرة منهم قد تم أستبعادهم من أبداء رأيهم لأنهم لن يجيدوا قراءة الرسالة والأجابة عليها ألكترونياً، فأذا أضفنا لهم نسبة الأمية الألكترونية أي كيفية الضغط على الرابط ثم أختيار الأجابة،فأن نسبة كبيرة من العراقيين ستكون خارج نطاق هذا الأستطلاع.

ثالثاً، هناك كثيرون ممن لديهم خطوط هاتف لكنها لا تعمل لأسباب مختلفة، فكيف سيتم أحتسابهم؟ هذا فضلاً عن وجود كثيرين ممن لديهم أكثر من خط واحد مما يضاعف من حظوظهم من خلال الأجابة مرتين أو ثلاث. أخيراً فأن الرسائل كما هو واضح أُرسلت عبر شركة هاتف نقال واحدة أو أثنتين في حين تم تجاهل كثيرين ممن يملكون خطوط هاتفية على منصات وشركات أخرى، مما يجعلهم خارج نطاق شمول الأستطلاع أيضاً.

الخلاصة، وبدون الدخول في تفاصيل أخرى وهي كثيرة، فمن الناحية العلمية والمهنية فأن ما تسميه الحكومة «أستطلاع لرأي العراقيين» هو لا يعدو في أفضل أحواله أستأناساً برأي «بعض» العراقيين وسترتكب الحكومة -أو من أشار عليها بذلك- خطئاً مهنياً كبيراً يعرضها لكثير من الأنتقادات من المختصين في العالم أن هي تبنت هذا الأستطلاع في أتخاذ قرارها أو سوّقت له بأعتباره رأي الشعب العراقي لتبني قرارها في التعامل مع قوات التحالف بموجبه.

...........................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق