اكتشف الجمهور العراقي، وهو اكتشاف متأخر، ان تظاهراته واحتجاجاته تسير باتجاه واحد ليس في وارد الحكومة او البرلمان ان تجترح معه اتجاها موازيا يرتقي الى حجم التحديات التي تواجه العراق والعراقيين.
وهي تحديات افرزتها جملة من العوامل، ليس اقلها سوء الادارة للعقل السياسي العراقي طيلة السنوات الماضية للكثير من الملفات الامنية والاقتصادية، ناهيك عن الملفات الاجتماعية والثقافية والبيئية والتنموية.
ولا يكتفي هذا العقل السياسي العراقي بفشله الذريع في إدارة كل ملف واكرام العراقيين فضيلة السكوت، الذي هو من ذهب، بل ينثر نحاس كلامه على جميع الاسماع، كاشفا عن الكثير من الصدأ فيه، ولا تنفع معه كل المواد الكيماوية لإذابته.
هذه جولة في عدد من التصريحات، لعدد من السياسيين على اختلاف مشاربهم الأيديولوجية، والمنتمين الى جهات متعددة، تكشف عن واقع هذا البؤس الذي يعيشه العقل السياسي العراقي، والذي اوصلنا الى ما نحن فيه.
من يفوض من؟
احدى النائبات (من النايبة وتعني المصيبة) تدعو وعلى لسانها وبعبارتها رئيس الوزراء الى (تفويض الشعب للتخلص من المحاصصة وان يلجأ الى الكفاءة والخبرة للاستفادة منهم في كثير من المجالات).
طبعا لم افهم ما الذي تعنيه بتفويض الشعب، هل من الممكن مثلا ان يطلب العبادي من هذا الشعب ان يمارس سلطاته؟ ومن هذا الشعب الذي يمكن له ان يمارس تلك السلطات؟ واذا كانت تقصد بالشعب هم نواب البرلمان، فقد منحوا العبادي موافقتهم على اصلاحاته التي تقدم بها اليهم، وهي كما رأينا لم تجترح هذا الاتجاه الموازي الذي تحدثنا عنه في بداية السطور، مما جعل هذا الشعب يشعر بالخيبة لأصواته التي اطلقتها حناجره المبحوحة.
وهي تطالبه باللجوء الى الكفاءة والخبرة، وكأن الكثيرين من المتواجدين حاليا في الحكومة لا يمتلكون تلك الكفاءة والخبرة. فهناك الكثيرون من هؤلاء من حملة الشهادات العليا، ومن الذين لديهم خبرات إدارية في عمل أجهزة الحكومة، أي انهم ينطبق عليهم التوصيف الشهير الذي لا كته الالسنة كثيرا وهو (التكنوقراط). والتكنوقراط كما هو شائع على اللسان السياسي العراقي، بعد خروجه من منطقة المفكر فيه الى منطقة الكلام عنه لا يعني التعريف الذي قاله جان وليم لابيير (هو الخبير المدعو الى المشاركة في صياغة القرارات التي يفيد منها في ممارسة السلطة الفعلية، إما بتأثيره الغالب على أصحاب السلطة الشرعية، أو بالنيابة عنهم في حلوله محلهم، أو – أخيرا-باستيلائه على السلطة الصريحة باسم الشرعية العقلية).
فأي تكنوقراط ومهما تحدثنا عنهم كثيرا يبقون خاضعين بالمحصلة النهائية للأحزاب التي تجلبهم لشغل أي منصب معين داخل الحكومة.
عودة الخطوط الحمراء مرة أخرى
تصريح اخر يعيدنا الى مربع الخطوط الحمراء الذي ظهر قبل سنوات واختفى من التداول السياسي، لكنه يظهر مرة أخرى عبر تصريح لاحد السياسيين ومن خلال ثلاثة خطوط حمراء يرسمها امام الحكومة، أحدها (رفض اقامة قواعد عسكرية أميركية على الاراضي العراقية).
وسبب ذلك وعلى لسان هذا السياسي (لن يتم السماح بمس السيادة العراقية مهما كانت الظروف).
لا اريد في هذه السطور مناقشة هذا السياسي حول مفهوم السيادة وما الذي تعنيه في زمن العولمة والخرائط الافتراضية، فقط اسأله: هل وجود قواعد أمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا قد مس من سيادة هذه الدول وجعلها تابعا ذليلا لأمريكا، من خلال سيطرتها على الامن او الاقتصاد او القرار السياسي؟
من المؤكد ان هذا السياسي وبحكم تلك العقلية يمكن ان يسمح بتواجد قواعد عسكرية لدولة أخرى، ولا يعد ذلك من وجهة نظره يمس بتلك السيادة، والتي لم يبق منها حتى رفع العلم العراقي في زيارات المسؤولين لتلك الدولة.
حكومة الأغلبية السياسية
ولنفس السياسي السابق، تصريح استبعد فيه تشكيل حكومة اغلبية سياسية حيث يقول: (من المستبعد تشكيل حكومة اغلبية سياسية حتى خلال السنوات المقبلة، لأنه لا يمكن للشيعة وحدهم تشكيل الحكومة واستثناء بقية المكونات).
فهم السياسي العراقي الأغلبية السياسي من منطلق طائفي وليس كما استقرت عليه في ادبيات علم السياسة، حيث ينبثق هذا المصطلح من رحم الديمقراطية؛ القائم بالإجمال على التداول السلمي للسلطة وحكم الأغلبية (الأكثرية).
والاغلبية السياسية هي شكل من أشكال الديمقراطية النيابية؛ حيث السلطة السياسية للحكومة مقيدة بدستور يحمي بدوره حقوق وحريات الأفراد والأقليات من خلال وضع بعض القيود على ممارسة الأغلبية لضمان هذه الحقوق، لكنها لا تمنع الأغلبية من ممارسة حقها واتخاذ صلاحياتها.
ويعرف العلماء مبادئ حكم الأغلبية (الأكثرية) بأنها مفاهيم ومبادئ مصممة حتى تحافظ الأكثرية على قدرتها على الحكم الفعال والاستقرار والسلم الأهلي والخارجي، ولمنع الاقليات من تعطيل الدولة وشل حركتها.
وهذا النوع من الأغلبية يغطي نصف سكان الأرض في أوروبا والأميركيتين والهند وأنحاء أخرى.
اضف تعليق