ان العدول عن الاحكام القضائية او ما يعرف فقها (التحول عن الاحكام) يعد احد الظواهر القضائية المتطورة ويعني تغيير اتجاهات المحكمة القضائية وتبني حل او مبدأ جديد متناقض مع مبدأ سابق تبنته لاسباب سياسية او اقصادية او اجتماعية او قانونية او فقهية وهو لايعد احد طرق الطعن القضائية...
على هامش صدور قرار المحكمة الاتحادية العليا بالعدد (9/اتحادية /2023) في 14/11/2023 والمتضمن انهاء عضوية رئيس مجلس النواب اعتباراً من تاريخ صدور الحكم اثيرت في وسائل الاعلام مواضيع تتعلق بالطعن بقرار المحكمة الاتحادية العليا بالرغم من كونه باتاً من قبل بعض السياسيين وحتى من بعض القانونيين وطرحوا فكرة عدول المحكمة عن قرارها بحجة انه تضمن مخالفات للدستور حسب وجهة نظرهم، والحقيقية ان مثل هذا الطرح يشكل مفارقه قانونية تستوجب الوقوف والتعليق عليها ولاسيما ان بعض اصحاب هذه الطروحات من رجال القانون، وهذا ما سنتاوله في المحاور الاتية :
ان العدول عن الاحكام القضائية او ما يعرف فقها (التحول عن الاحكام) يعد احد الظواهر القضائية المتطورة ويعني تغيير اتجاهات المحكمة القضائية وتبني حل او مبدأ جديد متناقض مع مبدأ سابق تبنته لاسباب سياسية او اقصادية او اجتماعية او قانونية او فقهية وهو لايعد احد طرق الطعن القضائية التي يمكن للخصم اللجوء اليها وخصوصاً امام المحاكم العليا التي تكون قراراتها قطعية كالمحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية والمحكمة الادارية العليا.
فالمحاكم العليا هي المسؤولة عن تحقيق الامن القضائي واستقرار المبادىء التي تصدر عنها لتحقيق الثقة بهذه المؤسسات القضائية وفقاً لمبدأ التوقع المشروع، الا ان الاعتبارات سابقة الذكر قد تقتضي من المحكمة العليا ان تعدل عن مبدأ سابق تبنته اتجاه حالة تنطبق عليها اوضاع معينه ولا تتعلق بشخص معين بالذات، لذا فالعدول هو استثناء مقرر على فكرة استقرار المبادىء القضائية تبرره ضرورات معينة ولذلك لايجب التوسع فيه وان يتم الركون اليه بحذر من المحكمة العليا وان يكون العدول محاطاً بضمانات معينه كأن يكون العدول تدريجي عن المبدأ القديم لضمان تقبل المبدأ الجديد، وكذلك عدم جواز العدول عن المبدأ الجديد وفقاً لقاعدة ( لاعدول عن العدول)، وان لايكون المبدأ الجديد مخالفاً للدستور وان يكون سريان العدول باثر فوري لا باثر رجعي حفاظاً على الحقوق والمراكز القـــــانونية التي اتم اكتسابها في ظل المبدأ القديم مع ضرورة تعميم ونشر الاجتهاد القضائي الجديد .
مصلحة دستورية
سبق للمحكمة الاتحادية العليا وان بلورت بموجب قرارها بالعدد (158/اتحادية /2022) في 16/8/2022 ضوابط العدول الذاتية عن الاحكام مستندة في ذلك الى نص المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2022 التي نصت على ان ( للمحكمة عند الضرورة وكلما اقتضت المصلحة الدستورية والعامة ان تعدل عن مبدأ سابق اقرته في احدى قراراتها على ان لايمس ذلك استقرار المراكز القانونية والحقوق المكتسبة )، حيث حدد دواعي ومقتضيات العدول استجابة للظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وان يكون هدف العدول تحقيق المصلحة العليا للبلد ودعم الحقوق والحريات العامة وحماية الامن وتحسين وتقويم عمل السلطات الاتحادية وضمان حسن سير المرافق العامة للدولة وان يكون العدول يتعلق بمبدأ قضائي سابق وغير متعلق بقرارات ذات طبيعة شخصية .
سبق للمحكمة الاتحادية العليا وان تعرضت لموضوع العدول القضائي والاحكام الباته عندما ردت دعوى اقامها النائب (م.ر.ض.ج) بالعدد (201/اتحادية/2023) في 16/10/2023 طالباً الحكم بعدم بدستورية المادة (36) من النظام الداخي للمحكمة رقم (1) لسنة 2022 والتي نصت على ان ( قرارات المحكمة الاتحادية العليا باته وملزمة للسلطات كافة ) مستندا في دعواه الى امكانية اقامة دعوى مستقلة للعدول عن حكم سابق ولايشكل ذلك طعناً بقرارات المحكمة وهنا خلط المدعي بين فكرة العدول القضائي الذي يتعلق بمبدأ وليس بقرار يتعلق بشخص بذاته كحالة الطاعن وبين فكرة الطعن القضائي، وقد جاء في حيثيات قرار المحكمة ( …تجد المحكمة ان العبارة المطعون فيها بعدم الدستورية والمقتبس نصها اعلاه انما هي تكرار وتاكيد لما نصت عليه المادة (94) من الدستور والتي تنص بأن ( قرارات المحكمة الاتحادية العليا باته وملزمة للسلطات كافة ) وان العبارة الواردة في المادة (36) من النظام الداخلي للمحكمة لم تأت بحكم جديد او اضافة قانونية جديدة، وانما هو تاكيد للنص الدستوري، وان معنى البتات بالنسبة للاحكام القضائية مقتضاه عدم جواز الطعن فيها باي شكل من الاشكال، ومن الامور المعلومه ان نصوص الدساتير تكون مختصرة لاتحتوي على تفاصيل كثيرة بينما تأتي التشريعات الادنى درجة (القوانين والانظمة) لتفصل النصوص والمبادىء الدستورية بعبارات اكثر تفصيلاً وتوضيحاً، ولكل ماتقدم ولعدم وجود مخالفة دستورية قررت المحكمة رد دعوى المدعي ….).
والواضح من الدعوى ان المدعي يطعن بنهائية الاحكام الصادرة من المحكمة الاتحادية العليا لانها تغلق باب مراجعه احكامها، وهذا امر طبيعي لان معظم احكام المحاكم العليا كالتمييز الاتحادية باته ولاتقبل الطعن الابحالات معينه كتصحيح القرار التمييزي مثلاً، اما المحكمة الاتحادية العليا فهي محكمة دستورية وان المشرع الدستوري اعطى وصف قطعية الاحكام وبتاتها بهدف غلق باب التدخلات في عملها وضمان استقرار الاحكام الصادرة عنها بسبب خطورة وخصوصية عملها، فضلاً عن احكامها لاتخضع لولاية او مراجعه محكمة اخرى .
محكمة التمييز
اما طرق الطعن بالاحكام القضائية فهي عادة تحدد في القوانين الاجرائية كقانون المرافعات وقانون اصول المحاكمات، وقد يترتب على الطعن بالتمييز مثلاً امام محكمة التمييز الاتحادية عدول محكمة التمييز الاتحادية عن مبدأ سابق لها وهذا يمثل اتجاه قضائي جديد، الان القرارالتمييزي الذي تضمن عدولاً عن مبدأ سابق لايخضع للطعن مجددا، لان قرارات محكمة التمييز الاتحادية باته ومنهية للخصومة، ولذلك فالطعن امام محكمة التمييز قصره القانون على بعض الاحكام والقرارات واوجب على الطاعن ان يستند في طعنه الى اسباب حددها القانون ولايجوز تقديم ادلة جديدة امام محكمة التمييز لم يسبق ايرادها سابقاً، لذا يجب التمييز بين فكرة العدول القضائي ودواعيه وبين فكرة الطعن القضائي، اذ ان القانون هو الذي يحدد طرق الطعن العادية والاستثنائية على سبيل الحصر .
يذهب البعض الى الاستناد لنص المادة (101) من الدستور التي تنص على ان (يحضر النص في القوانين على تحصين اي عمل او قرار اداري من الطعن) للاعتراض على نهائية احكام المحكمة الاتحادية العليا، وهذا الاستناد مردود لان النص يتعلق بالاعـمال والقرارات الصادرة عن الادارة وليـس من المحاكم بصفتها القضـائية اثناء ممارستها لعملها، وهذا النص جاء على هامش خلفيات تاريخية تتعلق بقرارات كانت تصدر من السلطة التنفيذية قبل عام 2003 محصنة من الطعن القضائي تحت عنوان اعمال السيادة، الا اننا يجب التمييز بين القرارات القضائية التي تصدرها المحاكم بمختلف انواعها ودرجاتها، وبين القرارات الادارية التي تصدرها الادارات القضائية بهدف تنظيم شؤون موظفيها واعمالها فهذه القرارات قابلة للطعن امام المـــحاكم المختصة .والله الموفق.
اضف تعليق