تلاشت فكرة إسرائيل الكبرى فأصبحت من الماضي، والدولة اليهودية كشعار تلقى الكثير من المعارضة والانقسام داخل إسرائيل، لعلها المخاوف التي أثارها "بنيامين نتنياهو" عن نهاية إسرائيل، وتمزق نسيجها من خلال النبوءة الإلهية، وهيمنة اليهودية التلمودية التي تؤمن بالتوسع والتمدد، ونقاء الشعب اليهودي، وقيام دولة إسرائيل من فلسطين حتى...
غزة تحت النار، غزة تحترق، غزة صامدة وتقاوم، ضحايا الحرب من نيران المدافع وقنابل الطائرات، إسرائيل بعتادها العسكري تقصف كل الكائنات على الأرض، الشجر والحيوان والإنسان، محرقة غير مبررة كدليل على الهشاشة والجبن في حروب من السماء، منهجية الحروب على الطريقة الأمريكية في القصف والتدمير بأسلحة ممنوعة دوليا، سعار ولهيب أصابها من جرأة المقاومة على تبادل القصف لمدنها.
إنها في المرحلة الأخيرة من يأسها وطغيانها، غضبها بلا حدود، وحقدها بلا هوادة، تنزل للميدان في ظلام دامس، ولا تدري من أين تخرج المقاومة، إنها تتسلل خفية، وتعود للوراء، تقر بالصعوبة والتعقيد، وينصحها الخبراء من الغرب بالتريث للتسلل من جديد، تهدأ لغة التهديد والوعيد، يرفضون الهدنة، ويرغبون فقط في تبادل الأسرى، ونعلم يقينا من قيمنا أن الأسير فاقد للحرية يجب التعامل معه بالحسنى، والمقاومة تعطي المثال للعالم على المعاملة الإنسانية إلى حين تبادلهم بالآلاف القابعين في سجون إسرائيل بدون محاكمة، وبدون سبب سوى الاعتقال بالشبهة.
غزة تدافع نيابة عن الكل، تصنع مجدا لنفسها، وتاريخا مجيدا لأحلامها، يسطرون ملحمة عظيمة من ملاحم البطولات في سبيل الانعتاق والتحرر، يصنعون سلام الجشعان بصدورهم وبنادقهم، يقدمون الشهداء والضحايا من أشلاء الأطفال، يوثقون الأحداث بالصورة، ويبصمون على الحق المشروع، حق المستضعفين والحالمين بوطن الحرية والكرامة، أما العرب فهم نائمون يكتفون بالتنديد وخطاب البيانات، والدعوة للهدنة التي ترفضها أمريكا، وقبلها أغلب دول العالم، إنها محاولة يائسة لكسر إرادة شعب لا يستسلم، وإرادة مقاومة قوية بجناحها العسكري والسياسي معا، شعب الجبارين كما كان يقول دائما الراحل "ياسر عرفات"، ويلوح بأيديه، ويعلو صوته في المنابر العربية والعالمية أن في فلسطين رجال ذوي بأس شديد، إنهم رجال يؤمنون بعدالة القضية، متشبثون بقيمهم ووطنهم، ويؤمنون أن الاحتلال مهما علا شأنه، ومهما طال جبروته، لا يمكن أن يصمد أمام تضحيات الشعوب في نيل الحرية.
القرب والتجاور منح للإنسان الفلسطيني القدرة على فهم العقلية اليهودية، والايدولوجيا الصهيونية، فكانت هناك ثقافة ممزوجة بالتصدي والصمود، ثقافة تقاوم الامبريالية، وتصمد أمام جبروت الآلة الحربية العسكرية. إسرائيل الكيان القائم على السلب والنهب، حولت فلسطين إلى "كنتونات"ضيقة، وفرضت على أهلها عراقيل في الحركة، وتحكمت في دواليب الحياة، وشيدت الكثير من الأعمدة والجدران الإسمنتية، كما تمادت في بناء المستوطنات القريبة من حدود غزة والضفة الغربية، وفتحت أبوابها للهجرة من كل بقاع العالم للعودة "لأرض الميعاد"، قدمت الإغراء فجاءت بالناس قسرا وطوعا، بالمقابل صادرت حق العودة للفلسطيني من المنافي والشتات، قدمها الغرب للعالم على أنها واحة للديمقراطية، وتدعي نفسها أنها جنة في قلب الشرق الأوسط بين كيانات أقل حضارة، لأنها استفادت من الدعم الغربي، واستثمرت في العلم والإنسان، وزرعت فكرة الشعب اليهودي أولا.
يندد العالم اليوم ويشجب الحرب العمياء التي يمكنها أن تقود المنطقة نحو حرب إقليمية، تتوسع إلى حرب عالمية، دوافع الحروب مبنية على نبوءة توراتية، وأساطير خيالية بنهاية العالم، وقيام معركة "هيرمجدون"، والقضاء على الشر. نعرف بالتمام أن الشر والخير متلازمان إلى يوم البعث، الخير ينهي الشر مؤقتا إذا عم السلام والرخاء، إذا انتشر التسامح وتلاشى الحقد والتعصب، الشر يسري في النفوس، يبرر بدافع الخوف والحماية، بدافع القضاء على العدو الوهمي والمفترض، تصنع أمريكا من الآخر عدوا لمجرد رفض القيم المعولمة، وترفض إسرائيل الآخر لمجرد المقاومة.
الشر يقبع في طبيعة الإنسان، استئصاله من الممكنات. عدالة القضايا الإنسانية ودفاع الإنسان عن حقه في الوجود منطق سائد في ثقافة الشعوب المكبلة بقيود الاستغلال والاستعمار، حق العيش بكرامة على أرضه مسألة حتمية. فمن الصعوبة بمكان استئصال هذه الفكرة من النفوس، واجتثاثها من الوعي الجمعي والفردي معا.
فلسطين أرض الأديان، ووطن السلام، أرض التقاء الناس في الهويات المختلفة، أرض المعابد والكنائس والمساجد، وطن الروح والهوى، لا يمكن أن تكون مشروعا استيطانيا غربيا ممولا من قبل الغرب، اليهود واليهودية مكون شرقي، فلا تخلو دولة عربية منهم، واختيارهم لأرض فلسطين جاء من خلال ضعف في القيادة الإسلامية، ونتيجة لمخططات المنظمة الصهيونية العالمية، ورغبة الغرب في التخلص منهم، وكذلك الرغبة في السيطرة على فلسطين بناء على فكرة دينية توراتية عنوانها العودة إلى " أرض الميعاد".
إنني لا أرغب في الدخول إلى غمار التاريخ، ولا أريد الاسترسال من بداية الصراع إلى الآن، ولا أود القول بنهاية إسرائيل بناء على النبوءات أو من خلال الاستشراف القرآني، أو القراءة المستقبلية للمفكرين والدعاة، وبعض رجال الدين من أحبار اليهود، لكن القراءة في مسار التاريخ، ندرك بالفعل أن لكل احتلال زمن، ولكل استعمار نهاية، والقوة المفرطة التي تنتهجها إسرائيل دليل على ضعفها وبداية النهاية لمشروعها، ولا نعرف بالضبط النهاية الحتمية.
تلاشت فكرة إسرائيل الكبرى فأصبحت من الماضي، والدولة اليهودية كشعار تلقى الكثير من المعارضة والانقسام داخل إسرائيل، لعلها المخاوف التي أثارها "بنيامين نتنياهو" عن نهاية إسرائيل، وتمزق نسيجها من خلال النبوءة الإلهية، وهيمنة اليهودية التلمودية التي تؤمن بالتوسع والتمدد، ونقاء الشعب اليهودي، وقيام دولة إسرائيل من فلسطين حتى نهر الفرات، المقاومة ومن خلال تكتيكات الحرب، هناك صمود وصبر على أرض المعركة، والحرب حتى الآن تجري بشتى الوسائل العسكرية والإستخباراتية، ومصادر الدعم والتموين والمساندة المعنوية والمادية من الغرب، لكن على الأرض نلمس بالمشاهدة من مصادر الأخبار المتنوعة والتقارير اليومية، ومن شبكات الرأي والاستطلاع، عدم الاستسلام أو الركون والخنوع أو حتى الشكوى من الدمار والتدمير، عمليات القتل الممنهجة والعشوائية دليل على انهزام إسرائيل، أما الحروب التي كانت تجريها إسرائيل من قبل، وانهزم فيها العرب خصوصا حرب 1967 فقد كرست صورة وردية لإسرائيل الضحية، تكتيك الحرب وأدواتها لم تكن في صالح العرب لاندفاعهم القومي الذي استغلته إسرائيل للدعاية لنفسها كطرف معتدى عليه.
تسلح العالم الآن بالميديا، والأخبار والصور من عين المكان، ناهيك عن النقل المباشر للصورة دون احتكار للإعلام الغربي الموجه. هناك إبادة جماعية، قصف بالمدفعية، والطائرات الحربية، والأسلحة المحرمة دوليا. الجيش النظامي لا يقوى على مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية، الحرب مع الوحدات العسكرية الصغرى من قبيل حماس وحزب الله أفضل من الجيوش النظامية، استنزاف لإسرائيل قي قوتها، وخلق الرعب في جنودها، هذا الأمر جعل من المقاومة في لبنان وغزة تحقق مكاسب معنوية ومادية في الحرب، ولو أن الحرب غير متكافئة في العدة والعتاد، لكن المقاومة بحدود أدواتها ساهمت في إنهاء الحروب السابقة من خلال هدنة بوساطة أطراف خارجية.
إن الحرب على غزة كشفت عن قوة الشعب الفلسطيني في التضحية بأبنائه، ما ترغب فيه أمريكا هو الحرب لأنها دولة قائمة على الحروب. فكل رئيس لا بد أن ينال سمعة وشعبية عندما يجري حربا ويصنع عدوا وهميا أو حقيقيا، اشتعلت حرب العراق مع "بوش" تحت شعار الحرية، وتدمير أسلحة الدمار، وحرب أفغانستان مع "أوباما" وشعار اجتثاث "الإرهاب" ومن يدعمه، وحرب روسيا وأوكرانيا، والحرب على غزة مع "جو بايدن"، تناقضات جمة بين الخطاب السياسي الأمريكي الذي يريد تعميم الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتصدي للأنظمة الفاشية، والميل بكل صراحة نحو تدعيم جيش من أجل الإبادة، لعبة السياسة في أمريكا قائمة على الحروب وتجارة السلاح، ونقل تناقضات الداخل نحو الخارج. إنه تغلغل صهيوني في الفكر السياسي الغربي، إنه الإيمان بالنهاية الحتمية للشر، إنها النبوءة التي لا يمكن إخضاعها لمنطق العقل أو منطق السياسة، والقواعد الضرورية في أخلاقيات الحرب، وفي عملية إرساء السلام، إنه سلام بدون أرض كما قال إدوارد سعيد، سلام مبتور وغير مكتمل.
تصفية القضية الفلسطينية من خلال التوطين والتهجير، نكبة جديدة في عالم الشتات والمنافي لن تكون حلا، إسرائيل في اندفاعها نحو القوة المفرطة وعدم التقيد بأخلاقيات الحرب تسرع من نهايتها، تستنزف تدريجيا، يذب في جنودها الخوف والفزع، تقصف وتحلل معطيات الميدان، وفي حالة فشلها وانهزامها تدعو للهدنة والسلام، وبالتالي تصمد المقاومة، وتزداد شراستها بالخبرة والتجربة في الحروب وإعادة البناء لذاتها.
هزيمة العرب فكرية وعلمية أكثر مما هي سياسية وعسكرية، ما ترسمه إسرائيل من مخططات تتعلق بالقضاء على حماس، وعزل غزة، وتوفير الأمن النهائي للمواطن الإسرائيلي دون غيره مجرد متمنيات في غياب سلام شامل ومنصف، إسرائيل يصيبها الذعر والسعار معا عندما تقصف تل أبيت وعسقلان والمناطق القريبة من غزة، إنها تتساءل عن السر وراء القوة الجديدة، تتريث وتتساءل عن فعالية المقاومة في المجابهة والصمود، تلوح باتهام إيران، ومد المقاومة بالسلاح، تلقي اللوم على الأنفاق، الإمكانيات الذاتية صنعت من رجال المقاومة أسودا، وجعلتهم يفهمون أن الحرب قضية كرامة.
حرب أخرى تجري على مستوى الإعلام، لم يعد الإعلام الغربي المصدر الوحيد للخبر، بل هناك قنوات عربية، وشبكات التواصل الاجتماعي بدورها تنقل الأخبار بالتقاسم والتعميم، يكون المنحى صعبا على المشاهدة لما ينشر من جرائم حرب ضد الإنسانية، جرائم ضد الأطفال والشيوخ والعجائز، جرائم ليست بالجديدة في حروب إسرائيل من منطلق الفكرة الميكيافلية: "أن الغاية تبرر الوسيلة"، التاريخ يسجل، والصور أكثر دلالة على ضراوة الحروب، وشراسة المعارك خصوصا عندما يفقد العدو عقله، ويجن جنونه، وتشتد عليه الخسائر.
الاحتلال كيفما كان لا يستطيع أن يجمع بين القوة والحكمة، نوازع العدوانية والشر ظاهرة في الحروب والاندفاع، حرب فيتنام وسياسة الأرض المحروقة، دروس الحرب وفنونها، القوة تحكم العالم، والحكمة والتبصر تقلل منها، بحيث يجري التحول الكيفي من حق القوة إلى قوة الحق، سياسة الردع النووي الروسي أجبرت أمريكا على تغيير بوصلتها نحو الشرق الأوسط من جديد، وبكل وقاحة يعلن "جو بايدن" على الدعم الكامل لإسرائيل، ولو لم تكن إسرائيل لصنعتها أمريكا في المنطقة.
غزة تقاوم، وتصنع مجدها بنفسها، يعلو صوت المقاومة بالنفير، تبشر بالنصر المسبق، وإحباط أي إنزال أو تسلل، المقامة موجودة في كل مكان، مستعدة لكل غزو بري، درجة التأهب عالية، الأمر الذي يقوي من الصلابة، ويزيد في العزائم والهمم، ويخلق فتنة وخوفا في نفوس العدو.
المعركة وجودية ومصيرية، لن تكون بسيطة أو عبارة عن نزهة، في الحروب مفاوضات ودسائس، مناورات وخداع، تنازلات وانقسامات، إسرائيل لا تحارب لوحدها، وحماس كذلك، معركة كسر العظم وانهاء الوجود غاية في التعقيد، لكن الحروب بمساوئها تصنع مجدا وكرامة للشعوب، إنها تحقق غايات التاريخ كما قال هيجل، تصنع أبطالا، ترتوي منها الأجيال، ويتشكل منها المخيال وذاكرة الجماعة، كما تقوي أواصر العلاقة المتينة بين مكونات المجتمع، الحرب تجسيد لإرادة الشعب الفلسطيني، وحقه المشروع في إقامة دولته على أرضه، وحقه في نيل الكرامة والعزة، لذلك استوعب أهل غزة اللعبة، حولوا الخنوع والانقسام إلى قوة، راهنوا على أنفسهم، وأنتجوا أدوات ووسائل بعقولهم وسواعدهم، أصبحوا خصما عنيدا، وقوة مضادة وشرسة في المقاومة، أما الرهان على العرب فهو أشبه بالرهان على حصان خاسر، بحيث لا توجد دولة عربية لها مشاريع وبرامج علمية، وحرية فكرية أوسع للنهوض بالأرض والإنسان معا.
اضف تعليق