إن العالم العربي، يواجه اليوم تحديات قديمة جديدة تتعلّق بالأمن الإنساني، بما فيه المياه والغذاء والطاقة، سواء من جانب تركيا (دجلة والفرات) أو إيران وشط العرب، وحرمان العراق من العديد من روافده، أما مصر والسودان فقد حرمتا من حصصهما المتفق عليها بعد بناء سد النهضة الأثيوبي، وتستمر «إسرائيل» بشفط المياه الجوفية من الأرض المحتلة ونهب مياه نهر الليطاني (لبنان)...
تشاركت مع الفقيه القانوني مفيد شهاب في إلقاء محاضرة عن «الأمن القومي العربي وتحدياته الجديدة»، وذلك عند افتتاح اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب بعمّان، فثمة أسئلة عديدة تستوجب التفكير بصوت عال، بشأن المفهوم بين التقليدي والجديد للأمن القومي العربي.
وإذا كانت الأخطار العسكرية، وحماية الحدود والحيلولة دون التدخلات الخارجية، تشكّل أهم التحديات القديمة، فإن التحديات الجديدة تتعلّق بالجغرافيا السياسية وموقع العالم العربي ودوله منفردةً ومجتمعةً، فضلًا عن التحديات الاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية، لاسيّما ونحن في إطار العولمة وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية «الديجيتال» والطور الرابع للثورة الصناعية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.
وهذه التحدّيات ترافقت مع تفشّي ظواهر العنف والإرهاب، واستشراء النزعات الطائفية والمذهبية والإثنية، وضعف الهويّة الوطنية والقومية لحساب الهويّات الفرعية، إذْ ما زالت العشائرية والقبلية والمناطقية تتقدّم أحيانًا على حكم القانون، الأمر الذي لا يمكن الحديث اليوم عن أمن قومي عربي، دون أمن المواطن وكرامته وحريّته، فلا أمن دون كرامة ولا كرامة دون أمن لأنهما مترابطان مع مستلزمات تحقيق مواطنة متكافئة ومتساوية، ودون تمييز.
والحديث عن الأمن القومي العربي هو موضوع قلق أكثر منه موضوع طمأنينة، وهو سؤال شكّ وليس سؤال يقين، مثلما هو تعبير عن رغبة وليس تعبيرًا عن إرادة. وبهذا المعنى فإنه انعكاس لأزمة وإشكالية، وليس انعكاسًا لثقة وأمان.
مقاربتان يمكن التوقّف عندهما كمدخل لمناقشة التحدّيات الجديدة للأمن القومي العربي: الأولى – تتعلّق بالرؤية والدلالة؛ فما هو منظور الامن القومي العربي؟ وما هي دلالته؟ والثانية – هل تحقّق الأمن القومي العربي؟ وإذا لم يتحقق ما السبيل إلى ذلك؟ والسؤال، هل الأمن القومي العربي مبدّد وضائع؟ وإذا كان كذلك، فكيف يمكن استعادته؟
يمكنني القول أن الإرادة الموحّدة ما تزال غائبة ومشتّتة، ولا بدّ من السعي لاستعادتها، فهي وإن كانت غائرة، إلّا أنها موجودة وكامنة. والإرادة هي المدماك الأساسي لاستكمال عوامل المواجهة، الأمر الذي يحتاج إلى إيقاظها وتحفيزها وتوفير حيثيات قيامها، خصوصًا حين نُدرك ما يفعله الأعداء من حولنا، الذين لهم مشاريعهم، ففي منطقتنا هناك ثلاث مشاريع كبرى هي: المشروع الصهيوني العنصري «الإسرائيلي» والمشروع القومي المذهبي الإيراني والمشروع القومي المذهبي التركي، والغائب في معادلة التوازن هو المشروع النهضوي العربي الذي يمكن أن يكون أساسًا صلدًا للأمن القومي.
ولعلّ هناك علاقة لسبب الغياب بين العلّة والمعلول والسبب والنتيجة، وبقدر ما هناك خصوصية لكلّ بلد، فهناك ما هو جامع، والمسألة تتعلّق: بالوعي والمصالح والمشتركات الإنسانية، وأساسها اللغة والتاريخ والثقافة، بما فيها من أديان المنطقة وتعايشها التاريخي.
تفاقم خطر
لم يتكامل مفهوم الأمن القومي العربي إلّا بعد تفاقم الخطر الصهيوني، والبداية كانت صدمة الاستعمار في مطلع القرن العشرين، الأمر الذي خلق شعورًا متناميًا بأن الأمة العربية مهدّدة، وأن هذا التهديد هو لمصيرها ومستقبلها. وكان مثل هذا التطوّر الجنيني قد بدأ يتطوّر بعد سقوط الدولة العثمانية، والذي تجسّد بتأسيس جامعة الدول العربية العام 1945، وكان قيام «إسرائيل» في العام 1948 ثم الحرب العربية «الإسرائيلية» منعطفًا جديدًا في تكريس الأمن القومي العربي ليترجم عمليًا في العام 1950 إلى دعم المجهود الحربي بقيام «معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي»، ثم السوق العربية المشتركة (1964) ومقاطعة «إسرائيل».
حين صعدت النزعات القطْرية الانكفائية، وضعفت الهويّة العربية الجامعة، وتحوّلت العروبة من رابطة وجدانية إنسانية وحقوقية إلى أيديولوجيا وأنظمة حكم تسلطية، تصدّع الأمن القومي، وبدلًا من اعتبار فلسطين قضية العرب المركزية، صار البلد الفلاني أولًا، والحزب الفلاني أولًا، والطائفة الفلانية أولًا، خصوصًا بتضخيم الهويّات الفرعية، وتحويلها من المطالب المشروعة بعد احتباس إلى عامل إضعاف وتفتيت، لاسيّما من خلال خطوط وقنوات خارجية، إقليمية ودولية لدرجة صار ظهر العرب مكشوفًا.
وما زاد من تحديات الأمن القومي، الحروب والنزاعات العربية والإقليمية؛ فالحرب العراقية – الإيرانية دامت ثمان سنوات، ومغامرة غزو القوات العراقية للكويت (1990)، عاظمت مشكلات المنطقة، خصوصًا ما تبعها من حصار واحتلال العراق، والحروب الأهلية وتداخلاتها الإقليمية في لبنان وليبيا واليمن وسوريا، والمشاكل المعتّقة بين العديد من البلدان العربية، وبين حماس وفتح.
ليس هذا فحسب، بل إن العالم العربي، يواجه اليوم تحديات قديمة جديدة تتعلّق بالأمن الإنساني، بما فيه المياه والغذاء والطاقة، سواء من جانب تركيا (دجلة والفرات) أو إيران وشط العرب، وحرمان العراق من العديد من روافده، أما مصر والسودان فقد حرمتا من حصصهما المتفق عليها بعد بناء سد النهضة الأثيوبي، وتستمر «إسرائيل» بشفط المياه الجوفية من الأرض المحتلة ونهب مياه نهر الليطاني (لبنان)، أمّا الطاقة فالمتحكّم بها الغرب، لاسيّما بالأسعار والتسويق وطرق المواصلات.
اضف تعليق