فاجعة الكلية الحربية أعادت تسليط الأضواء من جديد على المسكوت عنه في إدلب، حيث تنمو وتتمدد إمارة إسلاموية بزعامة تنظيم صنّفه العالم إرهابياً، وتتناسخ منه وتتعايش معه إمارات جهادية أشد فتكاً وإرهاباً، الأمر الذي يُمْلي على دمشق وحلفائها التفكير جدياً في اجتثاث هذا الغيتو، حتى إن كان مسيَّجاً...
الهجوم الإرهابي على الكلية الحربية في حمص غير مسبوق، إن في "أدواته" والجهات القائمة عليه، أو لجهة الخسائر التي أسفر عنها، دع عنك توقيته اللافت، وما يمكن أن يكون استنبطه من أهداف ومرامٍ.
المُسيّرات التي استُخدمت في تنفيذ الهجمات، متطورة نسبياً، ويعود امتلاك الفصائل الإرهابية لهذا النوع من السلاح والتدرب على استخدامه، إلى حالة "الاسترخاء" التي تعيشها هذه الفصائل في شمالي سوريا الغربي، والتي تضافرت جملة عوامل في خلقها:
1-الفيتو التركي على استئصال هذا الجيب (أكثر من جيب في الحقيقة)، المصحوب بانتشار عسكري تركي في هذه المناطق.
2- الرفض الغربي المتواطئ لأيّ محاولة لاستئصال التهديد الإرهابي من هذه المناطق، ما دام موجَّهاً في الأساس ضد دمشق وحلفائها، مصحوبة بمحاولات عربية وإقليمية لإعادة تأهيل النصرة والجولاني.
3- تردد بعض حلفاء دمشق في "حسم الموقف" تفادياً لإثارة غضب تركيا وخوفاً من التشويش على مسار أستانا، الذي صار "أستانا بلس" بعد التحاق سوريا، في اجتماعاته الثلاثية.
للوهلة الأولى، اتجهت أنظار المراقبين إلى تركيا كمصدر لتزويد هذه الفصائل بالمسيّرات، أولاً بسبب تفوق الصناعة الحربية التركية في انتاج سلالات متنوعة منها، وثانياً بفعل الروابط الخاصة التي تجمع أنقرة بهذه الفصائل، بحيث تتجاور معسكراتها مع معسكرات الجيش وقواعده ونقاط انتشاره. وازداد القلق من احتمالات التورط التركي، بالنظر إلى تزامن الهجوم على الكلية مع الضربات الجوية الكثيفة التي توجهها تركيا إلى مواقع حزب العمال الكردستاني في شمالي العراق، وإلى "قسد" في الحسكة، رداً على العملية الإرهابية التي هزت قلب العاصمة التركية أنقرة.
لكن المدقق من كثب لمشهد العلاقات التركية – السورية، يرى أن الهجوم الدامي على كلية حمص جاء من خارج سياق تطور هذه العلاقات، فتركيا ما زالت منغمسة في مسار "تطبيعي" مع سوريا. صحيح أنه يصعد ويهبط، ويتقدم ويتراجع، لكن الصحيح أن الجزء الظاهر من هذا المسار أهم وأكبر كثيراً من جزئه الغاطس، حتى إن وزير الدفاع التركي الجديد كان عبّر، قبل أيام قليلة من المجزرة، عن استعداده وزميله مدير الاستخبارات لاستئناف التفاوض مع نظيريهما السوريين، في الإطار الرباعي الذي يجمعهم بروسيا وإيران.
ثم إن تركيا، حتى في ذروة تورطها في الحرب على سوريا، وزمن التصريحات الرسمية المعبرة عن "التوق" إلى دخول دمشق دخولَ الفاتحين والصلاة في مسجدها الأموي الأشهر، لم تقترف أفعالاً من هذا النوع، ولم يصل تطاولها إلى حد التفكير في الاعتداء على هدف كذاك الذي استُهدف في الكلية، والذي قيل إنه اشتمل على الصف القيادي الأول من النخبة العسكرية السورية، بمن فيه وزير الدفاع ورئيس الأركان وقادة الفرق العسكرية. ومن دون استبعاد سيناريو تورط أجهزة استخبارية معادية لسوريا، وهي كثيرة بالمناسبة، في الهجمات الإرهابية الدامية، تخطيطاً وتجهيزاً، تسليحياً واستخبارياً، فإن من غير الجائز استبعاد سيناريو أن تكون الفصائل الإرهابية ذاتها طوّرت ما بات يُعرف بـ"أسلحة الفقراء": المسيّرات والصواريخ، بعد أن باتت "تكنولوجيا" إنتاج هذه الأسلحة متوافرة في أيدي الجميع، ولا تحتاج إلى كثير من المال والاستثمار والمعرفة التقنية.
وثمة عشرات الأمثلة، في مختلف أرجاء العالم، تشي بأن هذه الأسلحة، عبر أنواع متفاوتة، باتت في متناول المنظمات والفصائل والجماعات" المقاومة والإرهابية والمافياوية، سواء بسواء، و"الوسيلة باتت في متناول الكلّ، بصرف النظر عن مشروعية أو عدم مشروعية أهدافهم". وبعد أعوام من الاستقرار النسبي في إدلب وجوارها، يمكننا الافتراض أن هذه الفصائل والجماعات باتت تمتلك "البنية التحتية" لإنتاج هذا النوع من الوسائل القتالية، وقد تُفاجئنا في الأيام المقبلة بأنواع أخرى من الأسلحة والقذائف ووسائل نقلها.
حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم تعلن أيّ جهة مسؤوليتها عن الجريمة النكراء، لكن الأنظار تتركز على تنظيمات إرهابية أكثر تشدداً من الجولاني و"هيئته"، بينها الحزب الإسلامي التركستاني – الإيغوري، وهنا يمكن أن نفتح قوسين، لنشير إلى احتمالات غضب الحزب من زيارة الرئيس السوري لبكين، وحواراته الاستراتيجية مع القيادة الصينية، وتواتر الأنباء عن دخول صيني على خط الأزمة السورية من باب الاستثمار والإعمار أولاً، ومن باب السياسة والدبلوماسية تالياً، وربما من باب الانتشار العسكري على ضفاف المتوسط الشرقية في المقام الأخير. هؤلاء الخارجون عن القانون الصيني، الهاربون آلاف الكيلومترات عن حدود بلادهم، لن يكونوا سعداء أبداً بقدوم الصين إلى حيث تنتشر ملاذاتهم الآمنة، والتي شيّدوها على أنقاض الكنائس وفوق البيوت والممتلكات لسكان القرى والبلدات السوريين.
ثمة أطراف وفصائل ودول، لا يمكن استبعاد أدوارها الإجرامية في مختلف الأحوال والسيناريوهات. فصائل جهادية، كحراس الدين مثلاُ، جعلت "الجهاد" فريضة عين إلى يوم القيامة، في كل زمان ومكان، لا قيد على الممارسة الجهادية سوى نقص الإمكانات والاستعدادات. ثمة كيانات ودول، تقف "إسرائيل" في طليعتها، لن تتورع عن مقارفة أي فعل وتسهيله والتواطؤ عليه، ما دام سيُلحق ضرراً بلائحة أعدائها الممتدة من ضفاف قزوين إلى شرقي المتوسط. بهذا المعنى، يمكن تفسير لماذا تتجه أصابع الاتهام إلى هذه الأطراف، قوى وفصائل وحكومات، دائماً وقبل حصر الضحايا وبدء التحقيق.
على أن اللافت للانتباه في هذه الواقعة المشؤومة أن مصادر سورية موثوقاً بها، بدأت تشير بأصابع الاتهام إلى دور استخباري فرنسي، في تفعيل فصائل مسلحة وبعثها، بعضها "جهادي"، مصنَّف ضمن الجماعات الإرهابية في الشمال الشرقي، والتي تلقّت ضربات موجعة، إن على يد الجيش السوري وحلفائه، أو في حروب "الأخوة الأعداء" مع جبهة "النصرة"، قبل أن تصبح "هيئة تحرير الشام". فرنسا المطارَدة في الساحل والصحراء وعموم القارة الأفريقية، لم يعد لها موطئ قدم في سوريا كذلك، وهي التي امتطت صهوة المعارضة في بواكيرها، ونجحت في إيصال رموز سورية محسوبة عليها إلى صفوفها القيادية الأولى.
فرنسا تشعر بأن "تَرِكَتها" في سوريا جرى تقاسمها بين واشنطن وأنقرة ولاعبين أقل أهمية. فرنسا، التي لم يتورع "عملاق إسمنتها"، لافارج، عن دفع الجزية إلى "داعش" في الرقة، لا يمكن استبعاد تورطها في أحداث الشمال السوري، أو إنكار صلاتها بفصائل متطرفة وإرهابية، بمن فيها مَن خطط ونفذ العملية الإرهابية على الخريجين وعائلاتهم في كلية حمص العسكرية. في دلالة توقيت الهجمات، لا أحسب أنه دار في خلد المخططين والمنفذين هدف تعكير صفو الاحتفال بالذكرى الخمسين لحرب أكتوبر. ربما كانوا يعرفون أن الاحتفال بهذه الذكرى كل عام يوفر لهم هدفاً دسماً من نوع حشد الضباط رفيعي المستوى الذين يجتمعون في الكلية من أجل إتمام مراسم تخريج دفعة ضباط جدد. بهذا المعنى يمكن أن يكون لتزامن توقيت الهجمات مع ذكرى الحرب دلالة ذات معنى "تقني"، لا أكثر ولا أقل.
أمّا الأمر الأهم والأخطر، في حكاية التوقيت، فأظنه نابع من قراءة للمشهد السوري، الذي يتفاعل بتسارع تحت ضغط الأزمة الاقتصادية الخانقة، والتي تعتصر البلاد والعباد، وما ترتّب عنها من اندلاع حركات احتجاج، وخصوصاً في السويداء جنوباً، فكان ترتيب الهجوم النوعي، غير المسبوق، محاولة لإعادة عقارب الساعة 12 عاماً إلى الوراء، ورسالة تشجيع للمحتجين والغاضبين والمتذمرين من أجل المضي قدماً، وشرارة لإشعال السهل السوري بمجمله، وهو الأمر الذي أخفق أيّما إخفاق، بل جاء بنتائج عكسية، عبّرت عنها مشاعر الغضب والحزن والرغبة في الثأر والانتقام من الفاعلين ورعاتهم.
أياً يكن من أمر، فإن فاجعة الكلية الحربية أعادت تسليط الأضواء من جديد على "المسكوت عنه" في إدلب، حيث تنمو وتتمدد "إمارة إسلاموية" بزعامة تنظيم صنّفه العالم إرهابياً، وتتناسخ منه وتتعايش معه إمارات جهادية أشد فتكاً وإرهاباً، الأمر الذي يُمْلي على دمشق وحلفائها التفكير جدياً في اجتثاث هذا "الغيتو"، حتى إن كان مسيَّجاً بفيتو تركي وأنهار من دموع التماسيح الغربية، التي تُذرَف مسبَّقاً على معاناة المدنيين الإنسانية. تركيا أقامت الدنيا ولم تقعدها رداً على عملية في أنقرة، لم يسقط نتيجتها سوى جريحين اثنين. استباحت سيادة العراق وسوريا، وطاردت "العمال" وأنصاره في كل مكان، وليس من حقها أبداً أن تنكر على دمشق حقها في رد الصاع صاعين على القتلة والمرتكبين. واشنطن، التي تفهّمت حاجة تركيا ومخاوفها من "الإرهاب الكردي"، لا يحق لها أن تنكر على دمشق حقها في مطاردة الإرهاب الإسلاموي المصنَّف أميركياً بالإرهاب، والمستهدَف بين الحين والآخر بضربات جوية وصاروخية أميركية.
الرد على الهجوم الدامي على الكلية الحربية يكون أولاً عبر كشف الجناة، وتفادي سياسة "تجهيل الفاعل"، وتالياً عبر إنهاء الوضع الشاذ في إدلب، قبل أن تصبح الحال الموقتة مُستدامة. وثمة ما يشي بأن دوائر عربية وإقليمية ودولية تعمل على تأبيد الحالة القائمة في إدلب ومحيطها، أياً تكن العواقب والتداعيات، ما دامت بعيدة عن المساس بأمنها المباشر.
اضف تعليق