هناك اتجاهان لتأثير الرقمنة على المجتمع عموماً وعلى الميميين بخاصة: الأول داخلي ويتعلق بمتطلبات العمل في تلك الشركات التي تبحث عن الأفضل من بين العاملين بغض النظر عن خلفيته الشخصية والاجتماعية، أما الاتجاه الثاني الذي عزز من تأثير الميميين في المجتمع فهو يرتبط بالأول...
قلت في المقال السابق أننا نعيش آلام مخاض الوليد الاجتماعي القادم وهي آلام أشد مما شهدته الانسانية حينما تحولت من الصيد للزراعة ثم من الزراعة الى الصناعة، بسبب طبيعة المولود الناجم عن الرقمنة والمختلف كلياً عما عرفته الانسانية والقريب جداً من واقع مسلسلات وأفلام الخيال العلمي التي ما فتأت هوليوود تنتجها.
أننا ازاء ما بات يعرف بحقبة ما بعد الانسنة Post humanism التي أشرنا اليها في حلقة سابقة، أنها المرحلة التي يراد فيها دمج الأنسان مع الآلة عبر ثلاث تقنيات رئيسة هي الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والواقع المعزز (أي دمج الافتراضي بالواقع الحقيقي). أنه العصر الذي سيختلط فيه الانساني مع المصطنع ويتوحد فيه الأنسان مع كل محيطه ضمن تطبيقات تكنولوجية معقدة ويصعب تصورها الآن.
أنه العصر الذي تجاوزت فيه كل من شركات الرقمنة الأربع الكبرى (أمازون وأبل وفيسبوك ”ميتا” وكوكل) حاجز التريليون دولار كقيمة سوقية وباتت عمالقة أعمال تتحكم في جزء كبير ليس فقط من حاضر الاقتصاد، بل ومستقبله ايضاً.
واذا كان عصر الاستعمار والامبريالية قد تميز بهيمنة شركات النفط والسلاح فأن هذه الشركات لوحدها تجاوزت قيمة ونفوذ تلك الشركات وبمدة أقصر بكثير مما احتاجته تلك الشركات لتصبح كيانات اقتصادية كبرى. لكن السؤال هو: ما علاقة الرقمنة وشركاتها بالميمية وتداعياتها؟
تأثير الرقمنة
هناك اتجاهان لتأثير الرقمنة على المجتمع عموماً وعلى الميميين بخاصة: الأول داخلي ويتعلق بمتطلبات العمل في تلك الشركات التي تبحث عن الأفضل من بين العاملين بغض النظر عن خلفيته الشخصية والاجتماعية.
فبينما لا تزيد نسبة الآسيويين في المجتمع الأمريكي مثلاً عن 5 بالمئة فأن نسبتهم في شركات التقنية تتجاوز 11 بالمئة ولأنهم يريدون الأفضل والأكثر أبداعاً فأن العاملين في هذه الشركات ينالون في العادة أجور تزيد بخمسة أضعاف عن معدل الأجر العادي في الشركات الأخرى! ولندرة مثل هؤلاء العاملين وحاجتهم للتواجد أكثر في الواقع الافتراضي لخلق عوالم جديدة ومختلفة فهم نادرين أولاً وغير متصلين بالواقع الحقيقي.
كما ذكرنا سابقاً في مثال يوتيوب وكيف أن المثليين والشواذ كانوا من أوائل الناشطين على تلك المنصة فأن الحال متشابه مع بقية شركات التقنية الكبرى. أن العزلة الاجتماعية المفروضة على الميميين دفعتهم ليتواجدوا بكثافة في الواقع الافتراضي أو المعزز augmented reality مثل تطبيقات الملاحة الأرضية واستخدام الذكاء الصناعي لتوليد الافكار أو اختبار الأشياء وسواها. ونظراً للقيمة الاقتصادية والأرباح الكبرى لتلك الاعنال فلم يعد أحد من أصحاب تلك الشركات يركز على ماهية الميول الجنسية للشخص.
لا بل أن نجاح الشواذ والعابرين جنسيا وسواهم من الميميين في تلك الشركات وتبوأ كثير منهم لمناصب قيادية فيها كما تم ايضاح ذلك في حلقات سابقة دفع شركات التكنولوجيا الكبرى تتبنى وتدعم حركات الميميين بقوة.
أما الاتجاه الثاني الذي عزز من تأثير الميميين في المجتمع فهو يرتبط بالأول. فقد أدركت الشركات الكبرى أن الاستثمار في هذه الحركات يمكن أن يدر أرباحاً كبرى ويعزز مما يسمى في علم التسويق بالانطباع الجيد عن العلامة التجارية brand image.
لقد أدركت الشركات والحكومات جاذبية الرسالة التي تحملها المنظمات الداعمة للميمية والتي تتلخص كما ذُكر في الحلقة السابقة بالحداثة والعدالة الاجتماعية وعدم التمييز بين الناس على أساس جنسهم.
هذه الرسالة تبدو مغرية جدا لمجتمعات الشباب بخاصة في المجتمعات الغربية التي باتت أكثر فردانية وأقل اجتماعية نتيجة عوامل مختلفة قللت من تأثيرات المجتمع على الفرد الذي زادت درجة استقلاليته بشدة وبالتالي قل تأثير المعايير الاجتماعية (وبضمنها الأدوار التقليدية للذكورة والأنوثة) عليه.
لقد حولّت كثير من الشركات في الغرب برامجها المعتادة والتقليدية الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية مثل أنشاء الحدائق والساحات وسواها من الخدمات التي تخدم المجتمعات المحلية التي تتواجد فيها الى برامج تخدم فئات الميميين المختلفة باعتبارها جزء من المسؤولية الاجتماعية للشركات، ومن ضمن ذلك تقديم منح دراسية للميميين!
كما باتت الحكومات الغربية تمنح امتيازات مثل حق اللجوء والهجرة لدولها لمن يُعتقد أنهم مضطهدين بسبب جنسهم. مع هذا ينبغي أن نطرح السؤال الآتي: هل أن شركات الأعمال والحكومات هذه هي التي تقود وتدعم الاتجاهات الشاذة المثلية أم أنها ركبت الموجة للاستفادة منها؟ أجيب عن ذلك في سياق الحلقة القادمة.
اضف تعليق