في السنوات الأخيرة، شهدنا ردة فعل عكسية عنيفة ضد هذه السياسات، فضلا عن إعادة النظر على نطاق واسع في الأولويات الاقتصادية في عموم الأمر. الواقع أن ما ينتقده بعض المراقبين باعتباره سياسات حماية ونزعة تجارية خالصة هو في الحقيقة عملية لإعادة التوازن نحو معالجة قضايا وطنية مهمة مثل...
بقلم: داني رودريك
كمبريدج ــ "يبدو أن عصر التجارة الحرة قد انقضى. ترى كيف قد يكون أداء الاقتصاد العالمي في ظل سياسات الحماية؟"
هذا أحد الأسئلة الأكثر شيوعا التي أسمعها في أيامنا هذه. لكن التمييز بين التجارة الحرة وسياسات الحماية (مثل التمييز بين الأسواق والدولة، أو النزعة التجارية والليبرالية) ليس مفيدا على وجه خاص في فهم الاقتصاد العالمي. فهو لا يحرف التاريخ فحسب؛ بل يسيء أيضا تفسير التحولات السياسية الراهنة والظروف اللازمة لضمان اقتصاد عالمي مُـتعاف.
تستحضر عبارة "التجارة الحرة" صورة لحكومات تُـفسِـح المجال للأسواق لتسمح لها بتحديد النتائج الاقتصادية بنفسها. لكن أي اقتصاد سوق يتطلب الاستعانة بقواعد وضوابط تنظيمية ــ معايير للـمنتجات؛ وضوابط تحكم السلوك التجاري المانع للمنافسة؛ وضمانات للمستهلكين والعمالة والبيئة؛ ووظائف الملاذ الأخير للإقراض والاستقرار المالي ــ والتي تُـعـلِـنها وتنفذها الحكومات عادة.
علاوة على ذلك، عندما تترابط الهيئات المختصة الوطنية عبر التجارة الدولية والتمويل الدولي، تنشأ تساؤلات إضافية: أي القواعد والضوابط التنظيمية التي تقرها الدول المختلفة ينبغي أن تكون لها الأسبقية عندما تتنافس شركات الأعمال في الأسواق العالمية؟ هل ينبغي لنا إعادة تصميم القواعد من خلال المعاهدات الدولية والمنظمات الإقليمية أو العالمية؟
عندما ننظر إلى الأمر في هذا الضوء، يصبح من الواضح أن العولمة المفرطة ــ التي دامت منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين تقريبا حتى اندلاع جائحة كوفيد-19 ــ لم تكن فترة من التجارة الحرة بالمعنى التقليدي. فلم تكن الاتفاقيات التجارية الموقعة على مدار السنوات الثلاثين الأخيرة مهتمة في الأساس بإزالة القيود المفروضة على التجارة والاستثمار عبر الحدود بقدر ما كانت حريصة على فرض معاير تنظيمية، وقواعد الصحة والسلامة، والاستثمار، والخدمات المصرفية والمالية، وحقوق الملكية الفكرية، والعمل، وغير ذلك الكثير من القضايا التي كانت في السابق تقع ضمن نطاق السياسة الداخلية.
كما لم تكن هذه القواعد محايدة. بل كانت تميل إلى إعطاء الأولوية لمصالح الشركات الكبرى ذات الصلات السياسية القوية، مثل البنوك الدولية، وشركات الأدوية، والشركات المتعددة الجنسيات، قبل أي شيء آخر. لم تتمتع هذه الشركات بقدرة أفضل على الوصول إلى الأسواق على مستوى العالم فحسب؛ بل كانت أيضا المستفيد الرئيسي من إجراءات التحكيم الدولي الخاصة في إلغاء الضوابط التنظيمية الحكومية التي تسببت في تخفيض أرباحها.
على نحو مماثل، كانت قواعد الملكية الفكرية الأكثر صرامة ــ والتي تسمح لشركات الأدوية والتكنولوجيا بإساءة استخدام مراكزها الاحتكارية ــ تُـهَـرَّب إلى الداخل تحت ستار التجارة الأكثر حرية. ودُفِـعَـت الحكومات دفعا إلى تحرير تدفقات رأس المال، في حين ظلت العمالة محاصرة خلف الحدود. كما أُهـمِـلَـت قضايا مثل تغير المناخ والصحة العامة، وهو ما يرجع جزئيا إلى حقيقة مفادها أن أجندة العولمة المفرطة زاحمت هذه القضايا، ولكن أيضا لأن خلق المنافع العامة في أي من المجالين كان ليتسبب في تقويض مصالح الشركات.
في السنوات الأخيرة، شهدنا ردة فعل عكسية عنيفة ضد هذه السياسات، فضلا عن إعادة النظر على نطاق واسع في الأولويات الاقتصادية في عموم الأمر. الواقع أن ما ينتقده بعض المراقبين باعتباره سياسات حماية ونزعة تجارية خالصة هو في الحقيقة عملية لإعادة التوازن نحو معالجة قضايا وطنية مهمة مثل إزاحة العمالة، والمناطق المتخلفة عن الركب، والتحول المناخي، والصحة العامة. هذه العملية ضرورية لمعالجة الضرر الاجتماعي والبيئي الواقع بسبب العولمة المفرطة، وإنشاء شكل أكثر صحة من العولمة للمستقبل.
تُـعَـد سياسات الرئيس الأميركي جو بايدن الصناعية، وإعانات الدعم الخضراء، وشروط "صُـنِـع في أميركا" أوضح الأمثلة على إعادة التوجه على هذا النحو. صحيح أن هذه السياسات تشكل مصدرا للإزعاج في أوروبا وآسيا والعالم النامي، حيث يُـنـظَـر إليها باعتبارها مُعاكِـسة لقواعد التجارة الحرة الراسخة. لكنها تعمل أيضا كنماذج لأولئك ــ في ذات البلدان غالبا ــ الذين يبحثون عن بدائل للعولمة المفرطة والنيوليبرالية.
لن نضطر إلى العودة لمسافة بعيدة في التاريخ لكي نجد شبيها للنظام الذي قد ينشأ من هذه السياسات الجديدة. أثناء العمل بنظام بريتون وودز بعد عام 1945، والذي كانت له الـغَـلَبة روحيا حتى أوائل ثمانينيات القرن العشرين، احتفظت الحكومات بقدر كبير من الاستقلالية في إدارة السياسات الصناعية والتنظيمية والمالية، وأعطت أكثر هذه الحكومات الأولوية لصحة اقتصاداتها المحلية على التكامل العالمي. كانت الاتفاقيات التجارية ضيقة النطاق وضعيفة، ففرضت قِـلة من القيود على الاقتصادات المتقدمة، لكنها كانت أقل تقييدا للبلدان النامية. وكانت السيطرة المحلية على تدفقات رأس المال القصيرة الأجل هي القاعدة وليست الاستثناء.
على الرغم من هذا الاقتصاد العالمي الأكثر انغلاقا (وفقا لمعايير اليوم)، أثبت عصر بريتون وودز كونه مُـفضيا إلى قدر كبير من التقدم الاقتصادي والاجتماعي. فقد شهدت الاقتصادات المتقدمة عقودا من النمو الاقتصادي السريع والمساواة الاجتماعية الاقتصادية النسبية حتى النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين. وبين البلدان المنخفضة الدخل، حققت تلك التي تبنت استراتيجيات تنموية فَـعّـالة ــ مثل نمور شرق آسيا ــ قفزات ووثبات هائلة، حتى برغم أن صادراتها واجهت حواجز أعلى كثيرا من تلك التي تواجهها البلدان النامية اليوم. عندما انضمت الصين إلى الاقتصاد العالمي بنجاح كبير بعد ثمانينيات القرن العشرين، فعلت ذلك بشروطها الخاصة، فاحتفظت بإعانات الدعم، وملكية الدولة، وإدارة العملة، وضوابط رأس المال، وغير ذلك من السياسات التي تذكرنا بعصر بريتون وودز أكثر من تذكيرها لنا بالعولمة المفرطة.
ينبغي لإرث بريتون وودز أن يجعل أولئك الذين يعتقدون أن السماح للبلدان بفسحة أكبر لملاحقة سياساتها الخاصة يلحق الضرر بالضرورة بالاقتصاد العالمي يعيدون النظر في هذا الرأي. إن ضمان سلامة الاقتصاد المحلي هو الأمر الأكثر أهمية الذي يستطيع أي بلد أن يفعله من أجل الآخرين.
لا شك أن السابقة التاريخية لا تضمن أن تُـفضي أجندات السياسات الجديدة إلى نشوء نظام اقتصادي عالمي حميد. لقد عمل نظام بريتون وودز في سياق الحرب الباردة، عندما كانت علاقات الغرب الاقتصادية بالاتحاد السوفييتي في أضيق الحدود ولم يكن للكتلة السوفييتية سوى موطئ قدم صغير في الاقتصاد العالمي. نتيجة لهذا، لم تتسبب المنافسة الجيوسياسية في عرقلة توسع التجارة والاستثمار الطويل الأجل.
الوضع اليوم مختلف تمام الاختلاف. فالمنافس الرئيسي لأميركا الآن هو الصين، التي تحتل مكانة ضخمة للغاية في الاقتصاد العالمي. والانفصال الحقيقي بين الغرب والصين من شأنه أن يخلف تداعيات كبرى على العالم أجمع، بما في ذلك الاقتصادات المتقدمة، نظرا لاعتمادها الشديد على الصين لتدبير الإمدادات الصناعية. وعلى هذا فقد يجد المرء وفرة من الأسباب الوجيهة التي تدعو إلى القلق بشأن صحة الاقتصاد العالمي في المستقبل.
لكن إذا أصبح الاقتصاد العالمي غير مضياف، فسوف يكون هذا راجعا إلى سوء إدارة أميركا والصين للمنافسة الجيوسياسية الدائرة بينهما، وليس أي خيانة مفترضة للتجارة الحرة. يتعين على صناع السياسات والمعلقين أن يظلوا على تركيزهم على المخاطر التي تشكل أهمية حقا.
اضف تعليق