في المدة الاخيرة كثر الحديث عن تحركات للجيش الاميركي في المنطقة وانطلق الخيال السياسي للكثيرين من (المحللين) والمهتمين للحديث عن هذا الامر، وذهب بعضهم بعيدا في القول أن تغييرا حاسما سيحصل في العراق على يد هذه القوات، وأن الراغبين بذلك عبروا عن فرحهم وهم يتحدثون من خلال منابرهم الخاصة، سواء على الفيسبوك أو غيره...
لعل العراقيين كانوا من بين أكثر الشعوب حساسية تجاه الأجنبي، وقد عانى الكثيرون من الوطنيين من تهمة العمالة في المراحل السابقة أو منذ الاحتلال البريطاني للعراق مطلع القرن الماضي، لمجرد أنهم درسوا في أميركا أو بريطانيا أو تكون لبعضهم علاقة معينة مع شخصية بارزة في تلك الدولتين، وحين يعود لبلاده عليه أن يتعامل مع مشاعر الإرتياب والإتهام المضمر، لاسيما اذا كان له خصوم أو منافسين، حتى عالم الاجتماع الكبير علي الوردي نفسه وبعد ان درس في اميركا، عانى من هذه المسألة حيث قال؛ ان البعض اتهمني بالعمالة أو الجاسوسية.. واتبعها بعبارة.. والعياذ بالله!! ومصدر هذه الحساسية هو مكوث العراقيين طويلا تحت حكم الاغراب وما لاقوه من اهوال طيلة سبعة قرون وأكثر، حتى باتوا لا يميزون بين الدولة والنظام السياسي، لانهما لايمثلانهم ولايخدمانهم، ومازال كره الدولة جزءا من ثقافة عراقية مستمرة عند البعض إلى اليوم!
في العقود الاخيرة عانى العراقيون من قسوة مفرطة تعرضوا لها باسم الأمم المتحدة و(المجتمع الدولي)، وبعيدا عن المبررات السياسية، التي وقفت وراء ما حصل من حروب وحصار حديدي طويل، صارت علاقة العراقيين بالأجنبي وتحديدا، بريطانيا وأمريكا تستدعي التاريخ وتعيد قراءته بطريقة لاتخلو من عاطفة، تتذبذب بين النظرة السلبية المفرطة والايجابية المفرطة، على طريقة العراقيين التقليدية! وصار الحنين إلى العهد الملكي يستدعي صورا خيالية عن الحياة (الباذخة!) في تلك الحقبة.. وكان هذا احد اكبر المداخل النفسية لتقبل فكرة التعامل مع الاجنبي عند الكثيرين ممن رؤوا نشاطات بعض القوى المعارضة للنظام السياسي وقتذاك، بأنها طبيعية وباتوا يتعاطفون مع قادتها ووجدوا فيهم مدخلا للخلاص من واقعهم المزري.
لكن هذه الثقافة كادت تصبح هي القاعدة في الحياة السياسية العراقية بعد العام 2003، مع الاستخدام المكثف لوسائل الاعلام العراقية عبارات كانت تعد سابقا من المحرمات الاخلاقية قبل السياسية، مثل وصول المسؤول الفلاني من الدولة الفلانية لتشكيل الحكومة، أو هناك توافق إقليمي ودولي على تسمية فلان الفلاني رئيسا للوزراء.
حتى أصبحت هناك ثقافة سياسية جديدة، مفادها بأن مستقبل العراق لم يعد بيد العراقيين، وانما شأن إقليمي ودولي، وللأمانة، هذا المنطق لاينطبق على العراق وحده، بل على أغلب بلدان العالم بسبب تشابك المصالح، لكن يبقى هناك اطار لكل دولة وهرم من المسؤولية يستوعب هذه المسألة ويتعاطى معها، ليحافظ على سيادة الدولة وأمنها القومي، بلحاظ مصالح الآخرين وقراءة التوازنات الدولية وتسخير الجهد السياسي والدبلوماسي المحلي للتعامل معها.
في المدة الاخيرة كثر الحديث عن تحركات للجيش الاميركي في المنطقة وانطلق الخيال السياسي للكثيرين من (المحللين) والمهتمين للحديث عن هذا الامر، وذهب بعضهم بعيدا في القول أن تغييرا حاسما سيحصل في العراق على يد هذه القوات، وأن الراغبين بذلك عبروا عن فرحهم وهم يتحدثون من خلال منابرهم الخاصة، سواء على الفيسبوك أو غيره.
ومع الاعتراف بأن العراق لا يمكن أن يتغير واقعه المزري الحالي، من دون مساعدة دولية، لأنه فقد قدرته على الدفاع عن نفسه بعد أن تم تدمير مؤسساته المفصلية، كالجيش والقوى الأمنية الأخرى على يد أميركا وبريطانيا بعد الاحتلال، ومن الصعب اعادتها قوية من دون تعاونهما معه بعد أن أصبح العراق في سياق سياسي مختلف وقريب منهما، لكن هذا يجب ألا يتحول إلى ثقافة سياسية تجعلنا مخدّرين ومتكلين على الاجانب في رسم مصيرنا، لأننا اذا كرسنا هذه الثقافة سنعطي لجميع الاجانب الحق في التدخل بشؤون بلادنا، ونغدو موزعين بين الدول من خلال قوى سياسية هزيلة وتابعة.. وهو ما ينبغي التخلص منه بعد ان دفعنا ثمنه غاليا.. وغاليا جدا!
اضف تعليق