كتاب الطهطاوي تخليص الإبريز في تلخيص باريز الكلمة الفصل، أراد القول إن ما يقدمه في الكتاب هو انتقاء ما يراه مناسباً للمصريين، وللعرب عامة، مما وجده وعايشه في باريس، فهو لا يريد نقل النموذج الباريسي بحذافيره إلى بلده، وإنما انتقاء الإبريز، الذهب الصافي، الخالص فهو الذي سيفيدنا في نهضتنا...
”إن مخالطة الأغراب، لا سيما إذا كانوا من أولى الألباب، تجلب للأوطان المنافع العمومية“ ( مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية ص: 168)•.
”... والبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران.... أنهم يعرفون التوفير وتدبير المصاريف، حتى أنهم دونوه وجعلوه علماً“ (تخليص الإبريز في تلخيص باريز ص: 119-171) (الطهطاوي).
يعتبر رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر، لقب برائد التنوير في العصر الحديث، لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إماماً مشرفاً ومرافقاً للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار (1766-1835) لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. بذلك يعتبر الطهطاوي هو أنبغ المصريين الذين بُعثوا إلى أوروبا، وقد كانت له بعد عودته جهود محمودة في حياة مصر الثقافية، مما يجعله بحق زعيماً لنهضتنا الفكرية في ذلك العصر.
وتعتبر هذه الزيارة التي قادت رفاعة رافع الطهطاوي إلى اكتشاف أسرار باريس، بعدما عين من طرف أستاذه حسن العطار كمشرف ليرافق البعثة التعليمية المتكونة من 40 طالباً مصرياً لفرنسا لتعلم العلوم والوقوف على المناهج التعليمية الفرنسية، زيارة تاريخية وقف من خلالها الطهطاوي على عوامل نجاح وتقدم فرنسا ثقافياً وحضارياً وعلمياً، ولم يكتف رفاعة الطهطاوي بمهمة الإشراف الديني على البعثة بل دفعه شغفه بالمعرفة وحب الاكتشاف إلى تعلم أبجديات اللغة الفرنسية وهو لا يزال على ظهر السفينة الحربية المتوجهة نحو فرنسا رفقة الطلاب المصريين.
كانت نصيحة العطار لرفاعة أن يُسجل مشاهداته في رحلته في كتاب خاص، وقد استجاب التلميذ لنصيحة أستاذه، فبدأ منذ ركوبه السفينة في الإسكندرية يَفتح عينيه وأذنيه ليرى كل شيء ويسمع كل شيء. وكان كلما رأى جديداً أو سمع جديداً، انطوى على نفسه يفكر فيما رأى وفيما سمع، ثم لا يلبث أن يستحضر في مُخيِّلته الصورة المقابلة - لِما رأى أو سمع - في وطنه، أو في ديار الإسلام عامة، ثم يترك نفسه على سجيتها يُلقي النظرة بعد النظرة على الصورتين: الصورة القديمة التي عرفها في وطنه أو في ديار الإسلام، والصورة الجديدة التي رآها في الغرب أو في ديار النصرانية، فإذا ملأ نظره من الصورتين انقلَب يُحلل ويُقارن؛ لأنه كان يرى دائماً أن الصورة القديمة باهتة كريهة وأن الصورة الجديدة زاهية حية محبوبة.
وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام 1801م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيراً من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره.
- قراءة في كتاب رفاعة رافع الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) عام 1834:
معنى الإبريز، حسب قواميس اللغة العربية، هو الذهب الخالص، ويقال: ذهب إبريز، والقطعة منه إِبريزة، ويعود الفضل إلى رفاعة رافع الطهطاوي الذي جعل هذه المفردة حاضرة، حين اختارها في عنوان كتابه الأشهر: "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، الذي يمكن أن نعده النافذة العربية الأولى على الفكر الأوروبي الحديث، وأحد الكتب المؤسسة لفكر النهضة العربية، بل لعله أهمها.
المقصد من تأليف الكتاب، يقول الطهطاوي إن في مدة السفر "من مصر إلى باريس"، وما رأيناه من الغرائب في الطريق، أو مدة الإقامة في هذه المدينة العامرة بسائر العلوم الحكمية، والفنون والعدل العجيب، والإنصاف الغريب، الذي يحق أن يكون من باب أولى في ديار الإسلام، وبلاد شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا المقصد يتضمن عدة مقالات، تشتمل على عدة فصول:
المقالة الأولى: فيما كان من الخروج من مصر إلى دخول مدينة (مرسيليا) التي هي فرضة من فرضات الفرنسيس، وفيها عدة فصول.
المقالة الثانية، فيما كان من دخول (مرسيليا) إلى دخول مدينة (باريس) وفيها فصلان.
المقالة الثالثة: في دخول (باريس)، وذكر جميع ما شاهدناه، وما بلغنا خبره من أحوال (باريس) وهذه المقالة هي الغرض الأصلي من وضعنا هذه الرحلة، فلذلك أطنبنا فيها غاية الإطناب، وإن كان جميع هذا لا يفي بحق هذه المدينة، بل هو تقريبي، بالنظر لما اشتملت عليه، وإن استغرب هذا من لم يشاهد غرائب السياحة، قال بعضهم:
من لم ير الروم، ولا أهلها ما عرف الدنيا ولا الناسا
فمن باب أولى بلاد "أفرنجستان"
المقالة الرابعة: في ذكر نبذ من العلوم والفنون المذكورة في الباب الثاني من المقدمة.
وذكر فيه بعض الصنائع المطلوبة، لتعرف أهميتها، ولزومها في أي دولة من الدول، وهذه الفنون إما واهية في مصر، أو مفقودة بالكلية. وهي قسمان: قسم عام للتلامذة، وهو: الحساب، والهندسة، والجغرافيا، والتاريخ، والرسم، وقسم خاص متوزع عليهم، وهو عدة علوم:
العلم الأول: علم تدبير الأمور الملكية، ويتشعب عنه عدة فروع: الحقوق الثلاثة التي يعتبرها الإفرنج، وتسمى بالنواميس، وهي الحقوق الطبيعية، والحقوق البشرية، والحقوق الوضعية، وعلم أحوال البلدان مصالحها وما يليق بها، وعلم الاقتصاد في المصاريف وعلم تدبير المعاملات والمحاسبات، والخازندارية وحفظ بيت المال.
العلم الثاني: علم تدبير العسكرية.
العلم الثالث: علم القبطانية، والأمور البحرية.
العلم الرابع: فن معرفة المشي في مصالح الدول، ويعني علم السفارة، ومنه (الإيلجبة)، وهى رسالة البلدان. وفروعه: معرفة الألسن، والحقوق، والاصطلاحات.
العلم الخامس: فن المياه وهو صناعة القناطر، والجسور، والأرصفة، والفساقي، ونحو ذلك.
العلم السادس: الميكانيكا، وهي آلات الهندسة، وجر الأثقال.
العلم السابع: الهندسة الحربية.
العلم الثامن: فن الرمي بالمدافع وترتيبها، وهي فن (الطوبجية).
العلم التاسع: فن سبك المعادن، لصناعة المدافع والأسلحة وغيرها.
العلم العاشر: علم الكيميا، وصناعة الورق، والمراد بالكيميا معرفة تحليل الأجزاء وتركيبها، ويدخل تحتها أمور كثيرة؛ كصناعة البارود والسكر وليس المراد بالكيميا حجر الفلاسفة، كما يظنه بعض الناس، فإن هذا لا تعرفه الإفرنج، ولا تعتقده أصلاً.
العلم الحادي عشر: فن الطب، وفروعه: فن التشريح، والجراحة، وتدبير الصحة، وفن معرفة مزاج المريض، وفن البيطرة، أي معالجة الخيل وغيرها.
العلم الثاني عشر: علم الفلاحة، وفروعها: معرفة أنواع الزروع وتدبير الخلا بالبناء اللائق به، وغيرها، ومعرفة ما يخصه من آلات الحراثة المدبر للمصاريف.
العلم الثالث عشر: علم تاريخ الطبيعيات، وفروعه: الحيوانات، ومرتبة النباتات، ومرتبة المعادن.
العلم الرابع عشر: صناعة النقاشة، وفروعها، فن الطباعة، وفن حفر الأحجار ونقشها، ونحوها.
العلم الخامس عشر: فن الترجمة، يعنى ترجمة الكتب، وهو من الفنون الصعبة، خصوصاً ترجمة الكتب العلمية، فإنه يحتاج إلى معرفة اصطلاحات أصول العلم المراد ترجمتها، فهو عبارة عن معرفة اللسان المترجم عنه وإليه، والفن المترجم فيه.
فإذا نظرت بين الحقيقة رأيت سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الإفرنج ناقصة أو مجهولة بالكلية عندنا، ومن جهل شيئاً فهو مفتقر لمن أتقن ذلك الشيء، وكلما تكبر الإنسان عن تعلمه شيئاً مات بحسرته، فالحمد لله الذى (أنقذنا) من ظلمات جهل هذه الأشياء الموجودة عند غيرنا، وأظن أن من له ذوق سليم، وطبع مستقيم يقول كما أقول، وسأذكر بعضها بالاختصار في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وهو المستعان.
- الرحلة إلى باريس (رحلة البحث عن العلم والتدوين) 1826-1831: ترك رفاعة مصر والعلم فيها مقصور على رجال الدين من خريجي الأزهر، وهو واحد منهم، ولكنه ألفَى العلم في باريس ميادين واسعة، له فروع كثيرة، وللفروع فروع، وهكذا… وقد تخصص كل عالِم في دراسة فرع من هذه الفروع فوهَبه كل وقته وجهده فأنتج فيه وابتكر. ووجد أن علماء الدين ليست لهم المكانة الأولى كما هي الحال في مصر أو في بلدان العالم الإسلامي، فرسم لمواطنيه الصورة الجديدة للعلم والعلماء وكأنه يُوحي إليهم في كل سطر من السطور بأن هذه هي الطريقة المثلى والصورة الحقة للعلم والعلماء.
في يوم الخميس السادس من شهر رمضان سنة 1241ﻫ الموافق 14 أبريل 1826م أبحَرَت السفينة من الإسكندرية تحمل رفاعة وزملاءه. وفي التاسع من شهر شوال وصلت بهم إلى "مارسيليا"، ومُذ وطئت قدما رِفاعة أرض هذه المدينة بدأ يتعلم اللغة الفرنسية. يقول في رحلته: "وتعلمنا في نحو ثلاثين يوماً التهجي".
قضى في باريس تلاميذ البعثة جميعاً نحو سنة وهم يُقيمون معاً في بيت واحد، ويشتركون معاً في دراسة مواد واحدة. يقول رفاعة: " كنا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين، ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو الفرنسي، وفي كل جُمعة ثلاثة دروس من علمَي الحساب والهندسة".
وكانت هذه الخطة ترمي إلى عزل تلاميذ البعثة حتى لا يفسدِهم الاختلاط أو الحياة في باريس، وحتى يستطيعوا التوفر على دراستهم ليحصلوا العلوم التي يريدون على أحسن وجه وفي أسرع وقت، ولكن هذه العلوم التي أوفدوا لدراستها مودعة في بطون المؤلفات الفرنسية، ولا سبيل إليها إِلا إتقان هذه اللغة حديثاً وقراءةً وفهماً. ولا سبيل إلى هذا الإتقان إلا أن يختلط هؤلاء الشبان بأندادهم من الفرنسيين حتى تستقيم ألسنتهم.
أحس هذا النقص المشرفون على البعثة، كما أحس به أعضاء البعثة أنفسهم. يقول رفاعة: "مكثنا جميعاً في بيتٍ واحد دون سنة نقرأ معاً في اللغة الفرنسية وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل لنا عظيم مَزيَّة إلا مجرد تعلم النحو الفرنسي، لهذا صدرت الأوامر بتوزيع هؤلاء المبعوثين، فتفرقوا" في مكاتب مُتعددة، كل اثنين أو ثلاثة أو واحد في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص، عند معلم مخصوص، بقدر معلوم من الدراهم في نظير الأكل والشرب والسكن والتعليم …" وفي هذه المكاتب، أو (البانسيونات) كان التلاميذ المصريون يقضون ليلهم ونهارهم في التحصيل، ولم يكن يُسمح لهم بالخروج إلا في يوم الأحد أو بعد ظهر الخميس أو في الأعياد الفرنسية. وكان يحدث أحياناً أن يخرج بعضهم بعد العشاء إن لم يكن يشغله درس أو واجب.
وكان رفاعة أكثرهم انهماكاً في عمله وأشدهم إقبالاً عليه، ولم تكن تسعفه أوقات فراغه في النهار، فكان يقضِي مُعظم ساعات الليل ساهراً بين كُتبه ودروسه، يقرأ ويتفهَّم ويُترجم، حتى أصيبت عينه اليسرى بضعف، ونصحه الطبيب بالراحة ونهاه عن المطالعة في الليل، ولكنه لم يمتثِل لخوف تعويق تقدمه.
ولم يقنع رفاعة بالكتب التي تُشترَى له على حساب البعثة، فقد أحسَّ لذة المعرفة، فأقبل يشتري كتباً أخرى من ماله الخاص، ثم أحس أن دروس أساتذته لا تكفي لإشباع فهمه، فاستأجر معلماً خاصاً ظل يدرس له أكثر من سنة وكان يدفع له أجره من مرتبه الخاص.
أرسل رفاعة إلى فرنسا ليكون إماماً للبعثة، ولكن يبدو أن الأوامر صدرت في آخر لحظة أن يسمح له بالدراسة، فإن أقبل ووفق فليوجه إلى إتقان الترجمة، وذلك لأن ثقافته الأزهرية في اللغة العربية ترشحه لهذا العمل إذا ألم باللغة الفرنسية وأتقنها. وهذا عمل واسع عريض لأنه غير محدود، فحكومة محمد علي كانت مقبلة على الترجمة في كل علم وفن: في الهندسة، والطب، والفنون العسكرية، والتاريخ، والجغرافيا … إلخ، فواجب رفاعة إذن أن يقرأ كتباً في كل هذه العلوم وأن يمرن على الترجمة فيها جميعاً، ويا له من واجب شاق! ولكن همة رفاعة كانت همة عالية، فاستسهل الصعب، وأقبل ووفق.
وقد ذكر رفاعة في رحلته العلوم والفنون التي درسها، وعين الكتب التي قرأها والتي ترجمها أو بدأ يترجمها وهو في باريس. ومنها نلحظ أن ثقافته كانت موسوعية، فقد قرأ كتباً كثيرةً في مختلف العلوم مع أساتذته، ثم قرأ كتباً كثيرة أخرى وحده. وبرهن بهذا على أنه كان يتمتع بروح جامعية حقة. ولا عجب فقد ساعد على تزويده بهذه الروح أمور أربعة: المران الذي اكتسبه وهو يطلب العلم في الأزهر، والنفحة التي أضفاها عليه أستاذه العطار، وحبه العجيب للعلم وشغفه بالتحصيل، ثم نفسه العالية الطموح ورغبته في إشباع هذه النفس وإرضاء باعثه وباعث النهضة الجديدة في مصر (محمد علي).
وكان هناك عامل آخر، أو حافز آخر بعث رفاعة على الجد والاجتهاد لا يقل عن العوامل السابقة إن لم يكن أقوى منها. ذلك أن رفاعة درس دراسة دينية في أكبر جامعة دينية، ثم تخرج عالماً دينياً، وكان تلميذاً لشيخ الأزهر، كما كان قوي الإيمان متين العقيدة، وقد راعه منذ اللحظة الأولى الفارق الكبير بين ما كانت تتمتع به ديار المسيحية من تقدم في مختلف نواحي الحياة، وبين ما كانت تتمتع به مصر وديار الإسلام من تأخر وخمود وجمود في مختلف نواحي الحياة وخاصة في الناحية العلمية. ورحلته مليئة بهذه المقارنات كما سبق أن ذكرنا، لهذا نحس في جهوده التي ذكرها أنه ما كان يفرغ من قراءة كتاب في أي علم أو فن حتى يقبل على ترجمته، يريد بذلك أن ينقل لديار الإسلام وبنيه هذا العلم الجديد، عله يبعثهم إلى نهضة جديدة تنتهي بهم إلى أن يكونوا كأبناء المسيحية حضارة ورقيا، ولكن أنى له الوقت لترجمة هذه الكتب جميعا؟ ومع هذا فقد بدأ وترجم كتبا أو رسالات صغيرة ثم ترجم فصولاً من الكتب الكبيرة. وكأني به قد ترك الباقي حتى يعود لمصر فيتم ما بدأ، وقد فعل، ولكن جهده جهد إنساني محدود، ووقته وقت محدود، وهنا ترقب الفرص حتى سنحت له فعرض على محمد علي مشروعه لإنشاء مدرسة الألسن، وقد أنشئت. واتسعت بعد إنشائها حركة الترجمة، واستطاع رفاعة أن يحقق بعض آماله. ويؤيدنا في رأينا هذا أن معظم الكتب الأولى التي ترجمها خريجو الألسن هي الكتب التي قرأها رفاعة في باريس والتي كان يتمنى أن يترجمها بنفسه.
إن العلوم التي درسها رفاعة، والكتب التي قرأها، وهي تدل على أنه ثقف ثقافةً موسوعية. وقد كان لا بد له أن يتثقف هذه الثقافة ما دام قد بعث للتخصص في الترجمة، حتى إذا طُلب له بعد عودته أن يترجم في أي علم من العلوم لبى الطلب ونفذ الأمر. وهذا ما حدث مثلاً، فإِنه عُين بعد عودته مترجماً بمدرسة الطب، ثم نُقِل مترجماً بمكتب طرة الحربي. ولما أُنشئت الألسن كان يُشرف على أعمال خريجيها الذين ترجموا كتباً في كل هذه العلوم والفنون.
ويعتبر كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" من أهم مؤلفات الطهطاوي، ويسمى هذا الكتاب أيضاً (الديوان النفيس بإيوان باريس) وهو الذي صور فيه الطهطاوي رحلته إلى باريس وتقدم به إلى لجنة الامتحان في 19 أكتوبر 1830م.
خلاصة القول، يبقى أن في كتاب الطهطاوي " تخليص الإبريز في تلخيص باريز " الكلمة الفصل، فالطهطاوي أراد القول إن ما يقدمه في الكتاب هو انتقاء ما يراه مناسباً للمصريين، وللعرب عامة، مما وجده وعايشه في باريس، فهو لا يريد نقل " النموذج الباريسي / الفرنسي "، بحذافيره إلى بلده، وإنما انتقاء الإبريز، الذهب الصافي، الخالص، منه، فهو الذي سيفيدنا في نهضتنا.
بالمقابل ألا يصح النظر إلى تراثنا نفسه بنفس المنظور الذي به نظر به الطهطاوي لما رآه في باريس؟ نزعم أن الرجل قام بذلك فعلاً، فهو إذ استخلص الإبريز الباريسي، كان يدعونا أيضاً إلى استخلاص الإبريز من ثقافتنا وتراثنا وسلوكنا، ونبذ كل ما هو زائف وسطحي ومعيق لنهضتنا، لأن تطور الأمة ونهوضها لا يتحقق فقط بالاهتمام بعلوم الدين والشريعة، بل لا بد من الاهتمام بالعلوم الأخرى ولعل ندرة العلماء الموسوعيين أو عدمهم في بعض البلدان هو من الفتور الذي أصاب عموم الأمة الإسلامية في العلوم وغيرها. فإذا استيقظت الأمة من سباتها وانجلى عنها كابوس الخمول، وتقدمت مظاهر حياتها وظهر فيها فطاحل علماء الدنيا من رياضيات وفلسفة وطبيعيات وظهر المبتكرون والمخترعون عند ذلك يتنافس علماء الدين مع علماء الدنيا فيظهر المجتهدون وفقهاء الواقع الذين يكيفون الواقع ليتأقلم مع نصوص الشرع، وهكذا يتحقق التكامل التشريعي والعلمي ويصبح كل منهما خادما للأخر، وهذا بطبيعة الحال لن يتحقق إلا بالحكم العادل الساهر على مصالح العباد.
اضف تعليق