q
قدرة الإنسان عليها، أي قدرة الإنسان على الشعور والوعي والإدراك والتعقل والتفكير والقلب، هي أعظم ما خلق الله، وأنّ مجرد التفكير بها والتأمل فيما تفعله؛ سيقود الإنسان الى معرفة الخالق المبدع؛ فهي هي أعظم الأدلة على وجوده، وهي أعظم من خلقة الإنسان والكون وكل الأشياء الأُخر. وهذه القدرة...

الجمال والقبح، لا وجود حقيقيّ أو خارجيّ لهما، سواء في الأشياء المادية أو المعنوية، إنّما وجودهما ذهني فقط، ومن يوجِدْهما في الذهن هو الشعور بهما؛ فما يشعر به الإنسان أنه جميل؛ فهو جميل في ذهنه، وما يشعر به أنه قبيح؛ فهو قبيح، وإلّا لا وجود لشيء قبيح أو جميل في هذا الكون.

وليس الحديث هنا يرتبط بنسبية الجمال والقبح واختلاف الأذواق من شخص لآخر، أو الحسن والقبح العقليين وفق تصنيفات علماء الكلام، بل يختص الحديث في أصل الشعور بمصادق الجمال والقبح المحسوسة، التي تتفق عليها المشاعر الإنسانية عموماً.

وقد خلق الله للإنسان قدرة الشعور، التي تجعله ينجذب ويحب ويميل لأشياء، ويكره ويشمئز وينفر من أشياء أُخر، ويكون محايداً في مشاعره أو لا مبالياً تجاه أشياء ثالثة؛ فالعاطفة والوجدان والألم واللذة والشهوة والحب والبغض والكره والخجل وغيرها، هي المشاعر، والمشاعر هي نتاج الشعور. والشعور يحوِّل وجود الأشياء من القوة الى الفعل، أي أنّ الشعور بالشيء دليل على وجوده.

ولنتصور أجزاء الوجود الإنساني الخاص، التي تكوّن هويته الشخصية؛ فهي تتكون ــ حسب الموروث ــ من جسد وروح ونفس، ولعلّ الشعور هو جزء من خزين النفس، أي أنّ مخرجاته ونتائجه هي جزءٌ من مكونات النفس وخزينها. وسواء كان كذلك أو لم يكن؛ فهذا ليس موضوعنا، وليس موضوعنا أيضاً البحث في علاقة الشعور بالعقل والفطرة والوعي والإدراك والغريزة والقلب والفؤاد، وتداخلات وظائفها ومخرجاتهما، أو الغوص في منشأ الشعور؛ فهذه الموضوعات بحاجة الى مساحة بحثية أُخرى، أكثر سعة وعمقاً، ولكن نريد من الإشارة الى وجود أجزاء متعددة مكونة لوجود الإنسان؛ فهم موقع الشعور في هذا الوجود وحضوره الأساس كجزء مكوّن؛ فإذا كان جسم الإنسان هو الجزء المادي من الخلقة، والروح هي الطاقة التي تعطي هذه الجسم القابلية على العمل؛ فإن القدرة هي نقل قابلية الجسم وأعضائه في الأداء، من القوة الى الفعل، وهذه القدرة ليست هي الروح، بل هي سلطة مستقلة عن الروح والجسد؛ لأن الروح لا تتحرك بذاتها، إلّا بوجود أداة تعمل فيها هذه الروح، وهذه الأداة لا تعمل، مع وجود الروح فيها، إلّا بوجود قدرة على تفعيل هذه الأداة. وهذه القدرة تتجلى في الشعور والتعقل والإدراك والوعي والتفكير، أي أن الدماغ (أداة العقل) لا يعمل دون وجود الروح، كما لا ينتج العقل الإدراك والتعقل والوعي والتفكير دون وجود قدرة تفعّل عمل الدماغ.

إنّ مخرجات الشعور والعقل والقلب، هي أعظم مصادق الميتافيزيقا الإلهية، وإذا كانت جرم الروح قد تم قياسه، كما تمت مشاهدة حركة خروج الروح من الجسد عبر التصوير الحراري (الأشعة تحت الحمراء)؛ فإن المشاعر لا يمكن مشاهدتها إطلاقاً، ولا معرفة كنهها وأسرارها، رغم أن مخرجاتها وآثارها ملموسة ومحسوسة. وعندما خلق الله أعضاء جسم الإنسان، خلق معها وظيفتها، كما خلق معها القدرة على أداء هذه الوظيفة؛ فقد خلق وظيفة البصر مع العين، والتفكير والتعقل والوعي مع العقل، والشم مع الأنف، والتذوق مع اللسان، والسمع مع الأذن، وهكذا، ثم خلق القدرة على ممارسة هذه الأعضاء لوظائفها، وهذه القدرة التي يلخصها الشعور، هي الخلقة الأعظم على الإطلاق؛ صحيح أن خلقة الأعضاء وخلقة وظائفها هي خلق عظيمة، لكن القدرة على النظر والسمع والشم واللمس والتذوق والتفكير والتعقل، هي الخلقة التي تفوق خلقة الأعضاء بما لا يمكن قياسه وحسابه.

والجمال والقبح الاعتباريان، يخلقهما شعور الإنسان بالأشياء وتحسسها، من خلال وظائف أعضاء جسم الإنسان، أي أن الله لم يخلق جمالاً وقبحاً بذاتيهما، بل خلق الأشياء، وخلق الشعور، وقال للشعور: هذا قبيح وهذا جميل؛ فصار هذا المخلوق جميلاً في نظر الإنسان ومشاعره، وصار الآخر قبيحاً، سواء كان هذا المخلوق مادياً أو معنوياً. مثلاً: الكذب والنفاق والنميمة والفتنة، ليست قبيحة بذاتها، بل أصبحت قبيحة لأن الله أمر شعور الإنسان باستشعار آثارها وتحسسها، بل حتى هذه الآثار ليست قبيحة بذاتها؛ إنما صارت قبيحة لأن مشاعر الإنسان قادته الى استشعار قبحها، ولولا وجود الشعور لما كانت قبيحة.

وكذلك؛ لو خلق الله شعوراً معاكساً للإنسان تجاه منظر الماء والشجر والخضرة، أو تجاه الجنس المقابل (ذكر/ أنثى)، بل تجاه كل ما يعتبره الإنسان جميلاً؛ لكرهها واشمأز منها واعتبرها أشكالاً ومعاني قبيحة، والعكس صحيح تجاه الأشياء التي يعتبرها الإنسان قبيحة، وهي في الحقيقة قبيحة في ذهنه الذي دلّه عليها الشعور بها، وليست قبيحة بذاتها.

والمرأة تميل بالفطرة الى الرجل والرجل يميل بالفطرة الى المرأة، والإنسان يحب الخضرة والشجر والماء والالوان بالفطرة. هذه الفطرة هي التي تخلق الشعور بالحب والكراهية، ولو انتجت الفطرة شعورا آخر، كأن يشعر الرجل ــ مثلاً ــ بقبح المرأة وجمال الخنزير البري، وتشعر المرأة بقبح أولادها وجمال الجثة المتفسخة؛ فسيكون ذلك طبيعياً.

وإذا أخذنا خلقة التذوق أو حاسة التذوق؛ سنجد أنّ الأشياء الطيبة والحلوة التي يذوقها الإنسان، هي ليست طيبة وحلوة بذاتها، بل إنّ حاسة التذوق هي التي يقودها الشعور الى كونها طيبة المذاق. وكذلك خلقة اللمس، تقود ــ مثلاً ــ الى أن هذا ناعم الملمس وهذا خشن الملمس، أي أنّ هذه النعومة ليس نعومة بذاتها، بل الاحساس بها يجعلها ناعمة.

وبالتالي؛ ليس الخنزير البري قبيحاً بذاته ولا المرأة جميلة بذاتها، ولا وجود الأولاد جميل بذاته ولا الجثة المتفسخة قبيحة بذاتها، إنّما الشعور بذلك، هو الذي جعلها جميلة أو قبيحة. كما أن الشعور هو الذي يحدد للإنسان عظمة الأشياء المادية والمعنوية أو هزالها وضعفها، أي أن الكون بكل ما فيه ليس عظيماً بذاته، أو أنّ ما فيه من مخلوقات هي عظيمة وجميلة أو هزيلة وصغيرة وقبيحة، إنما يعود ذلك الى طبيعة الشعور بها.

صحيح أنّ خلقة الإنسان عظيمة، وهي دليل على عظمة خالقها، وصحيح أنّ وظيفة الأعضاء وآلية عملها عظيمة، وهي دليل آخر على عظمة الخالق، لكن الأعظم منها جميها هي حاضنة الوظائف، وأقصد بها القدرات التي تمكِّن الأعضاء من أداء وظيفتها؛ فخِلقة العين عظيمة، ووظيفتها أعظم، لكن الأعظم من كليهما، قدرة العين على أداء وظيفتها، وهذه القدرة هي قدرة النظر، أي أن خِلقة النظر هي أعظم من خِلقة العين ووظيفتها، وكذلك خِلقة الأذن عظيمة، لكن خِلقة السمع أعظم منها، وهكذا الحواس الأُخر؛ فلولا النظر والسمع والشم واللمس والتذوق لما كانت هناك أشياء خارجية، ولكان كل شيء عدم، حتى لو امتلك الإنسان ألف عين وأنف وأذن ولسان ويد. وبالتالي؛ فوجود الأشياء يتوقف على وجود الحواس والعقل والشعور، بل حتى وجود الله سيكون مخفياً ((خلقتُ الخلق لكي أعرف)).

ولذلك؛ يؤكد الله على خِلقة العقل والقلب والفطرة والشعور والفؤاد والسمع والبصر واللمس والتكلم، وقدرتها على أداء وظيفتها، وليس على خِلقة القلب (الأداة) والعين والدماغ والأنف والفم واللسان ((والله أخرجكم من بطون أُمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون))، ((وَلَا تَقْفُ ما ليس لك به عِلم إِنّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أُولئك كان عنه مسئولاً)). وهنا لم يمنّ الله على الإنسان بأدوات الحس، بل بالحس نفسه وبقدرة الحس على ممارسة وظيفته؛ إذ لولاه لما علم الإنسان شيئاً، كما لم يحمّل اللهُ الأذن والعين واللسان أية مسؤولية؛ لأنها مجرد أدوات لا قيمة لها بدون وظيفتها والقدرة على أدائها للوظيفة، بل حمّل السمع والبصر والفؤاد كامل المسؤولية. وهذه المسؤولية تنسحب على فهم نوع العذاب والنعيم الأُخرويين أو الثواب والعقاب.

إنّ الشعور والوعي والإدراك والتفكير والتعقل (القدرة على ضبط الفعل بواسطة العقل) والقلب (بمعنى دليل الإنسان وقدرته على إنشاء الفعل)، هي قدرات عظيمة إعجازية خلقها الله ليمنّ بها على الإنسان، وهذه القدرات هي الخلقة الأعظم في الكون، وطبيعة عملها يخضع لقانون إلهي جبري، لكن توجيهها يتبع لحرية الإنسان. ولا شك أنّ قدرة الإنسان عليها، أي قدرة الإنسان على الشعور والوعي والإدراك والتعقل والتفكير والقلب، هي أعظم ما خلق الله، وأنّ مجرد التفكير بها والتأمل فيما تفعله؛ سيقود الإنسان الى معرفة الخالق المبدع؛ فهي هي أعظم الأدلة على وجوده، وهي أعظم من خلقة الإنسان والكون وكل الأشياء الأُخر. وهذه القدرة، بتجلياتها ومشاعرها الفطرية، يستحيل على أي مخلوق أو جهة أخرى خلقها، سواء كانت الطبيعة أو الصدفة، بل الإنسان نفسه، مهما بلغ من العلم، سوى صانع قادر مطلق؛ لأنها عالم عجيب سري لا مرئي، وهي مفاتيح الغيب: ((وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هو)).

ولعل قول الله في الحديث القدسي: ((عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون)) يشير الى القابلية الفطرية الذاتية لهذه القدرة لدى الإنسان على التطور والتنامي، كلما اقترب الإنسان أكثر الى الله، حتى تتحول الى مراتب الكرامة والإعجاز، وحينها لن يقتصر الشعور على الجماليات المادية والمعنوية الدنيوية، بل يتعداها الى الشعور بالجماليات والقبائح الغيبية.

اضف تعليق