تبدو مواقف الدول العربية من مواجهة خطر تنظيم "داعش" مترددة، أو غير واضحة، أو تتسم بعدم الجدية، والتباطؤ الحقيقي إن لم تكن معدومة تماماً. وما زالت التحـركات والتحـالفات والمصالحات بين الدول العربية دون مستوى مواجهة هذا التنظيم الذي استخدم كل قواه الناعمة والصلبة وأسطورته الدينية الخيالية، على الرغم من عنفها وتطرفها بشكل غير مسبوق على مستوى الحركات والتنظيمات المتطرفة؛ ليحرز تقدماً كبيراً في نواحٍ ومجالات عدة خلال مدة قصيرة، متجاوزاً ما حققته الدول العربية على مدار تاريخها بكثير.
بالمقابل هناك ضعف في الأداء المضاد لتنظيم "داعش" من قبل الدول العربية، وغياب الاستراتيجية الواضحة لمواجهة خطر هذا التنظيم. ولهذا فلا بد للدول العربية أن تتدارك أخطاءها الداخلية والخارجية وتقفز فوق الخطوط الضيقة من أجل وضع استراتيجية عربية مشتركة تستطيع من خلالها مواجهة خطر التنظيمات المتطرفة الحالية والمستقبلية.
بالتأكيد هناك فراغات كثيرة بين الدول العربية، فراغات -سياسية ودينية واقتصادية- استطاع التنظيم أن يستغلها لصالحه. وأيضاً هناك عوامل ساعدت التنظيم على بناء ذاته، بغض النظر عن الحاضنة السياسية والدينية التي ساعدت على نمو التنظيم المتطرف في بعض الدول العربية، وهذا يمثل تحديا حقيقيا أمام الدول العربية في إثبات ذاتها في مواجهة هذا التنظيم؛ لأنه لا يستثني دولة عربية من أهدافه، وستكون كل الدول العربية أهدافا سهلة المنال له وللتنظيمات الإرهابية الأخرى في تنفيذ هجماته الانتحارية والانتقامية في ظل التباعد بين الدول العربية وتفككها داخلياً وخارجياً، وربما سيعمل التنظيم على اجتياح بعض البلدان العربية لإضافة إراضٍ جديدة لرفع معنويات عناصره التي يفتقدها نتيجة الانكسارات والهزائم التي يتعرض لها في مواجهة الجيوش الوطنية سواء في العراق أم في مصر أم في غيرهما.
وفي ظل التقاطعات بين الدول العربية وضعف الأداء وغياب التعاون الخارجي المشترك بين تلك الدول، وضعفها أيضاً في بنائها الداخلي سواء فيما يتعلق بضعف النظام السياسي أم الاقتصادي أم الديني، وفي ظل القمع السياسي والتشدد الديني وضعف التنمية السياسية والاقتصادية للدول العربية، سوف يزداد التنظيم قوة وصلابة في تحقيق أهدافه لتحقيق دولة خلافته المزعومة.
ربما ما زالت الدول العربية تجهل خطر هذا تنظيم "داعش" الذي أعلن بأن كل الدول العربية هي خلافة إسلامية سيستهدفها في تحركاته المتطرفة عاجلاً أم آجلاً، وربما التعاطف العربي مع هذا التنظيم في عملية الاجتياح العسكري لبعض المحافظات العراقية في يونيو من العام الماضي، ما يزال يتصوره الذهن العربي على أنه ثورة لبعض العشائر العراقية على الإقصاء الحكومي أو مواجهة النفوذ الإيراني في العراق أو ما شابه ذلك. هذا التصور بالتأكيد هو تصور خاطئ حتى وإن صح قليلا؛ لكون الكثير من أبناء العشائر انخرطوا مع هذا التنظيم الإرهابي. صحيح أن هذه العوامل ساعدت التنظيم فضلاً عن عوامل أخرى استطاع استغلاها لاختراق تلك العشائر، وكذلك استغلاله للخلافات السياسية، والتقاطع الطائفي في العملية السياسية، وغياب الرؤية الواضحة لصانع القرار العراقي.. والخ، كل هذه هي عوامل ساعدت التنظيم في اجتياح بعض المحافظات العراقية، إلا أن هذا لا يدل على مشروعيته، ولا سيما مع كل الانتهاكات الإجرامية التي قام بها ضد المدنيين من كل الطوائف والأديان. فذلك التصور العربي عن اجتياح التنظيم للعراق يجب أن يزول، وأن يكون هناك هدف واستراتيجية عربية واضحة لمواجهة هذا الخطر؛ لأن الخطر يهدد الجميع، وحتماً ستكون الدول العربية هدفاً للتنظيم في ظل هذه التقاطعات وغياب الاستراتيجية المشتركة في مواجهته.
كذلك ما تزال الدول العربية تجهل خطر التنظيم في تهديده للمصالح والقيم العربية والدينية، سواء في تشويه الدين الإسلامي أم في تقطيع أوصال الدول العربية إلى ولايات أو دويلات وتغييب التنوع الديني والثقافي وتهديده للأقليات الدينية وخطف الهوية العربية والإسلامية وتقطيعها، فضلاً عن تشوية الصورة الحقيقية للدين الإسلامي أمام الأديان الأخرى وأمام دول العالم، حتى أصبح الدين الإسلامي اليوم متهماً بالتطرف والقتل والإجرام، كذلك العمليات الانتقامية التي ينفذها على السلطات الحكومية أو ما يسميهم بـ"المرتدين أو الخارجين عن الملة"، وهو تهديد حقيقي لبنية الدول السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحدودها القومية.
هذه التهديدات يجب أن تُواجه باستراتيجية عربية مضادة، كما ويجب خلق آلية عمل مشتركة في الجوانب السياسة والاقتصادية والدينية، والجوانب العسكرية والأمنية، تقوم على أساس العمل المشترك والجدية الحقيقية بعيداً عن كل المسميات والاستهدافات الطائفية. فمن غير الممكن أن تبقى الدول العربية متفرجة في ظل كل ما يحصل في المنطقة، لكي تبقى حبيسة الصراعات والإرادات الدولية والإقليمية. فالإرادة العربية اليوم مغيبة بين الإرادة الأمريكية والغربية والإرادة الإيرانية والتركية، وما زالت تلك الإرادات تتصارع من أجل النفوذ في المنطقة، فالدول العربية بحاجة إلى استراتيجية ومشروع عربي حقيقي متصدٍ للإرهاب والتنظيمات الإرهابية المتطرفة، ومتصدٍ أيضاً للإرادات المتصارعة في المنطقة.
ولذلك، على الدول العربية اليوم أن تتعامل بحزم وجدية، وعدم المماطلة والابتعاد عن التخندق الطائفي، ويجب أن تتسم بردة فعل سريعة وليست بطيئة إن لم تكن معدمة أصلاً، اتجاه كل ما يحصل في المنطقة، وعليها الابتعاد أيضاً عن العمل الفردي غير المجدي، وأن تكون فاعلة وليس مستجيبة للأحداث، ولا متفاعلة على أساس ردة الفعل الدولية والإقليمية، وأن تكون داعمة لوحدة العراق وشعبه وكذلك الحال بالنسبة لسوريا واليمن، وأن تأخذ المؤسسات الدينية العربية دورها في مواجهة التطرف والإرهاب والاندماج الديني والتقارب المذهبي، وكذلك الحال على الصعيد الإعلامي.
هذا التقارب العربي المشترك يجب أن يتحول إلى دعم أساليب الحياة الديمقراطية والتنمية السياسية والاقتصادية في البلدان العربية؛ لأن اقتصار الاستراتيجية العربية المضادة على القوة الأمنية والعسكرية لا يمكن أن تحل مشكلة أو أن تصل إلى استراتيجية شاملة، فهي بحاجة إلى جهد استخباري وعسكري مشترك، وبحاجة أيضاً إلى المراقبة الإلكترونية أو استراتيجية إلكترونية مشتركة لمراقبة تحركات تنظيم "داعش" الإلكترونية، التي استطاع من خلالها توظيف قوته الناعمة بشكل قوي جداً، والتي مكنته من أن يمثل لنفسة قوة جاذبة في جميع أنحاء العالم.
أيضاً لابد أن يكون هناك دور كبير لمراكز الفكر العربية المعنية بالشؤون الأمنية والعسكرية والسياسية والشؤون الاستراتيجية في وضع تلك الاستراتيجية المشتركة، وخلق الأجواء الطبيعية لذلك، فهي مطالبة اليوم بوضع تحليل شامل للتنظيمات الإرهابية، ووضع الخطط اللازمة لمواجهته وخلق آليات العمل والتواصل المشتركة. وهي مطالبة أيضاً بإدراك الخطر الحقيقي الذي يمثله التنظيم المتطرف على مستقبل الدولة القومية بشكل عام ومستقبل الدول العربية بشكل خاص، وهذا بالحقيقية يحتاج إلى توافق عربي حقيقي بعيداً عن التعاطفات الدينية الطائفية، والأمور الداخلية؛ لخلق بيئة سياسية عربية صالحة بإمكانها معالجة كل ما يحدث بمهنية وبمصلحة وطنية، حتى يكون هناك مشروع عربي ورؤية عربية مشتركة تستطيع مقارعة الرؤى الدولية والإقليمية، ومعالجة أزمة تنظيم "داعش" وأزمة اليمن وسوريا والعراق، وأزمات المنطقة بشكل عام، وكل الأزمات الطارئة. هذا التعاون العربي من الممكن أن يتمثل بدول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية الأفريقية "مصر والجزائر وتونس والمغرب"، فضلاً عن العراق والأردن وحتى سوريا واليمن.
هذه الرؤية للاستراتيجية العربية على الرغم من صعوبتها، إلا أنها ليست بالمستحيلة، ولابد للدول العربية أن تعمل على تحقيقها، وإدراك أهميتها إذا ما ارادت أن تواجه خطر تلك التنظيمات الإرهابية الحالية والمستقبلية، وأيضاً إذا ما ارادت العمل على تحقيق وحدة عربية مشتركة قادرة على إثبات نفسها وإرادتها في المنطقة مقابل الإرادة الإقليمية والدولية. فإذا ما بقيت الدول العربية متعنتة ومتخندقة طائفيا ومتقطعة الأوصال، مع غياب العمل العربي المشترك، فبالتأكيد ستتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية، ويزداد التشدد الديني والتطرف، وتكون أكثر عرضة للتهديدات الإرهابية المتطرفة، وسوف تكون المنطقة العربية ساحة صراع مستمرة، فضلاً عن التفكك السياسي والديني والمجتمعي الداخلي للدول العربية؛ نتيجة الاضطرابات التي تعيشها المنطقة وحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والتخندقات الطائفية والحروب الأهلية التي تهدد مستقبل دولها.
ويكمن الخطر الحقيقي الذي يواجه الاستراتيجية العربية في التفكك الداخلي للدول، والصراعات الإقليمية الطائفية. وبهذا يمكن أن تكون رؤية أوباما صحيحة جداً بأن "الدول العربية تواجه تهديدا من الداخل أكثر من الخارج" إذا ما أصرت على فكرها المنغلق واستمرار الفجوة بين السلطة الحاكمة والشعب.
اضف تعليق