q
الرد على التطرف والشعبوية لا يكون بنسخة مضادة، لأنها رد غير حكيم حتى لو تحقق من ورائه مكسب، بل مكاسب سياسية سريعة، فالتطرف مرض العصر وناتج من نواتجه ومواجهة التطرف لأمد بعيد يكون بستراتيجية وخطوات صبورة ومتأنية تفسد على المتطرفين والشعبويين فرصتهم واسلحتهم...

من نيوزلندا شرقا إلى الولايات المتحدة غربا، مرورا بدول آسيا وافريقيا وأوروبا والأمريكيتين، يشهد العالم ظواهر (جديدة) تنبئ عن سلوك بشري ينحط كل يوم، رغم اضطراد التطور التكنولوجي والثورة العلمية وخطاب الحقوق والعقلانية الذي يسود العالم. لم يكن تطرف السلوك البشري امرا جديدا، فلكل عصر (حضاري) أمراضه ومشكلاته الأخلاقية والقيمية والدينية، المرتبطة بصراع البشر على المصالح وحيز النفوذ وامتلاك القدرات وبسط الهيمنة.

كانت الناس وما زالت تتنازع بدوافع مختلفة، ولم تنجح الشرائع الدينية التي جاءت لتهذيب الطباع وتحقيق السلام ولا القوانين الوضعية والمعارف العلمية في منع مسببات التصارع والتكاره والتقاتل ودعوات التحريض، لقد شهد العالم تحسنًا نسبيًا في ترويج قيم السلام والحوار وقبول الآخر، وصارت عناوين للحضارة المعاصرة في طورها الأخير، وهي ما زالت تتردد على ألسن العلماء وقادة الديانات والمنظمات الاممية ليل نهار، غير أن المتطرفين والساعين إلى الاستثمار في غرائز البشر المنفلتة، يجدون مساحات كبيرة للتعبير عن سلوكيات العدوان والكراهية والعنف وإثارة الاخر واستفزازه حد الموت.

وما زال بعض البشر يتصرف بغريزة الحيوانات ويستبيح الكرامات والمقدسات والوجود الانساني، متلذذا بالاثارة والجدل الذي يستثيره سلوكه العدواني، يوم قتل المتطرف الاسترالي برينتون تانت عشرات المسلمين في مسجدين من مساجد مدينة كريست شرش النيوزلندي عام 2019، تحدث هذا الارهابي بوقاحة عن نيته المبيتة لقتل المسلمين، مؤكدا تبنيه لفكرة تفوق العنصر الأبيض وتأثره بالأفكار الفاشية وتشبعه بافكار العداء ضد غير البيض، لا سيما المسلمين منهم، كان هذا السلوك غاية في العدوانية والتطرف والاستعلاء بدوافع نفسية وفكرية مريضة ومدانة عند العقلاء، لكن كم من امثال هذا السفاح يعيش وسيعيش في عالمنا ويتصرف تصرف الوحوش في الغابة؟ ولماذا تتكاثر أحزاب النازية الجديدة وتنظيمات الفاشية وقوى اليمين المتطرف بعد سنين متطاولة من الدعوة إلى فكرة المواطنة العالمية والانسان الكوني والمساواة بين بني البشر؟ أيا كانت أصولهم وأديانهم، وسواء كانوا مهاجرين أو سكانا أصليين؟

لنتذكر أن هذا الفكر العنصري يجعل القتلة متطابقين في الشعارات والأهداف، لنلاحظ مثلا درجة التطابق في فعل ودوافع القاتل اليميني الاسترالي مع زميله النرويجي اندرش بريفيك، الذي قتل هو الاخر عشرات اليافعين والشباب صيف عام 2011 خرجوا في سفرة إلى جنوب النرويج وبدوافع عنصرية بحتة! ولم يتأثرا أو يتراجعا عن افعالهما الدموية.

قبلهما وبعدهما كانت مواقع التنظيمات الارهابية ذات المنشأ الاسلامي تنشر مشاهد قتل الناس مسلمين وغير مسلمين ذبحا وحرقا، وتسترق النساء غير المسلمات، بل وحتى المسلمات من غير مذهب الجماعات الإرهابية، كما فعلت داعش، في استعادة حرفية لسلوكيات قرون مضت وثقافة مجتمعات خلت مشروطة باعرافها وقوانينها، ولم يتردد التنظيم أن يذكرنا بالاسلام النقي ومقولات الجهاد ضد الكفار وشعاره اقامة دولة الشريعة والخلافة!، وهنا تغلف السلوك العدواني بفكر يستمد جذوره من نصوص دينية، يتأولها متطرفون كيفما يريدون لخدمة مشروعهم المفارق لفقه التعايش والمقاصد، ويلقى هذا السلوك الوحشي تأييد ودعم الكثيرين بسبب عقلية الانغلاق والجمود والنصوصية الحرفية، فيدافعون عنه ويتبنونه ويعتبرونه عملا مشروعا!.

في الهند مارس المتطرفون الهندوس أفعالا شنيعة ضد المسلمين عام 1992 بسبب الصراع على مسجد بابري التاريخي، ضحايا هذا الصراع ذي الجذور الدينية ناهزت ألفي شخص، وكان المحرك رغبة الغلاة الهندوس في فرض هويتهم وقيمهم على الاقلية المسلمة بذريعة بناء معبد الاله راما، بينما تكرر المشهد نفسه في مذبحة مسلمي مدينة سربرينيتسا البوسنية عام 1995 على يد متطرفين صرب حيث قتل 8000 مسلم بدوافع هوياتية ودينية وهوس ذاكرة تاريخية مشبعة بالأحقاد. مأساة مسلمي الروهينغا في ميانمار مثال حي وشاهد من شواهد رفض الاخر والبحث عن النقاء العرقي والصفاء الديني في فلسطين المحتلة، تتسيد الأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة المشهد السياسي وتستعد المنطقة لجولات حروب يخططون لها.

متطرفو ومتعصبو البشر لا يتحركون بدون دوافع دينية، أو حتى لا دينية لكنها أكثر إيغالا في التوحش. وما دام هذا الفكر مشاعا وينتشر بسرعة هائلة بسبب ثورة الاتصالات، فإن مشاهد العدوان والفتك وسلوكيات الكراهية ستنمو وتتوالد اكثر من ذي قبل، وستستهوي هذه النزعات بعض الطامحين لاستثمارها سياسيا وصب الزيت على نار النزاعات ذات الجذور الدينية والاختلافات العرقية والصراعات القومية والطائفية. ولن تتوقف فصول هذه المشاهد المروعة وسيشهد العالم صورا غير متوقعة منها، فمن كان يتوقع أن يستعمل رئيس دولة عظمى كالرئيس الامريكي دونالد ترامب كل أساليب التحريض والتعبئة النفسية ويخاطب غرائز يميني أمريكا للبقاء في بما كاد يشعل حربا أهلية، بزعم الدفاع عن عظمة الأمة الأمريكية.

الشعبوية ظاهرة اجتماعية سياسية، كزميلتها التطرف العنيف، تستمد قوتها من المشكلات المتزايدة في حضارة العالم المعاصر، فترمي سبب مشكلاتها على المهاجرين والسياسات المرنة وقوانين الهجرة، أو تخاطب الذاكرة لتحريك غرائز العنصريين واليمينيين وتعبئة الشارع المتعب من البطالة والتضخم والجريمة ضد أعداء مُتخيلين، تشهد بذلك فضاءات السياسة في فرنسا وايطاليا والمجر واليونان والسويد وأمريكا وغيرها من الدول، بل إن الشعبوية صارت منهجا واسلوبا يعتمده ساسة وزعماء وقادة احزاب ومقدمو برامج ونجوم منصات التواصل الاجتماعي، رأسمالها الاستثمار المباشر في عواطف ومحركات السلوك الجمعي، واهدافها مكاسب سلطوية.

فالدوافع قد تكون شخصية وحزبية وسياسية ودينية يجمعها التعبئة السريعة وتحريك الانفعالات واستفزاز اعصاب الناس وشدهم نحو قضية محددة، وتوظيف ذلك في صناعة وعي زائف وتحقيق اغراض سريعة، تكرار جريمة حرق القرآن على يد بالودان الدانمركي -السويدي، وسلوان موميكا، ذو الاصول العراقية، وفي بلد عرف بالتسامح والحياد والليبرالية والديمقراطية الاجتماعية ونموذج دولة الرفاه كالسويد، تندرج في سياق مظاهر الشعبوية والتطرف واستغلال (حرية الرأي) وتكشف عن مقدار التحول والتغيير، الذي أصاب مجتمعات الرفاه قبل مجتمعات الازمة والصراعات، ومنها مجتمع السويد، الذي بات يحتضن السياسات والسلوكيات المتطرفة والشعبوية الحزبية، استثمارا لحق دستوري هو (حرية الرأي والتعبير والاعتقاد)، بينما هو يستبطن عدوانا على مقدسات مئات الملايين ويوفر أرضا خصبة لنمو التطرف المضاد والمواقف والسياسات الشعبوية.

الرد على التطرف والشعبوية لا يكون بنسخة مضادة، لأنها رد غير حكيم حتى لو تحقق من ورائه مكسب، بل مكاسب سياسية سريعة، فالتطرف مرض العصر وناتج من نواتجه ومواجهة التطرف لأمد بعيد يكون بستراتيجية وخطوات صبورة ومتأنية تفسد على المتطرفين والشعبويين فرصتهم واسلحتهم.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق