فقانون انضباط موظفي الدولة العراقي فضلاً عن كونه لم يتضمن قواعد تفصيلية في كيفية استدعاء الشهود والاستماع لأقوالهم فإنه لم يتضمن آلية لضبط وإحضار الشاهد أمام سلطة التحقيق أو المحكمة وهذا خلل تشريعي كان على المشرع تلافيه في تعديله الأخير لقانون انضباط موظفي الدولة رقم (5) لسنة (2008)...
تعني الشهادة في اللغة من الفعل شهده يشهده، كسمعه، شهوداً، وترد هذه المفردة في اللغة لمعان متعددة منها الحضور والمعاينة والعلم والخبر القاطع والحفظ وغير ذلك، أما في الاصطلاح فتعني (أخبار بحق للغير على أخر عن يقين في مجلس الحكم، وذلك المخبر يسمى شاهداً)، والشهادة وسيلة من وسائل الإثبات المشروعة في الإسلام لقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، ولقول رسول الله (ص) (ليسَ لك إلا شاهداك أو يمينه).
أما على مستوى الدفاع في نطاق التأديب الإداري فإن الشهادة هي الأقوال التي يدلي بها غير الخصوم بما أدركوه من حواسهم، أو ما استقوه من غيرهم بأسماعهم أو أبصارهم عن ظروف وملابسات الواقعة موضوع التحقيق الاداري أو المحاكمة التأديبية مما تقود إلى براءة المتهم عما أُسنِدَ إليه، ويكفي أن تكون الشهادة مؤدية إلى استنتاجات مقبولة أو توضيح لبعض وقائع الدعوى مما يجعل التحقيق الإداري أو المحكمة التأديبية تتوصل إلى الحقائق.
ان دور الشاهد لا يقل أهمية عن دور المحامي في تحقيق دفاع المتهم لأن من شأن شهادته تعزيز موقف المتهم ودفع التهمة عنه لذا يجب على السلطات التحقيقية أو المحاكم التأديبية سؤال المتهم فيما إن كان له شهود للدفاع وعدم الاكتفاء بالاستماع لشهود الإثبات وإلا عد ذلك إهداراً لضمان من ضمانات الموظف محل الاتهام.
ويعرض إجراءات سلطة التحقيق والمحكمة إلى البطلان لذا نجد معظم التشريعات قد نصت على حق الموظف بالاستشهاد بشهود الدفاع في دوري التحقق والمحاكمة، ففي مصر نصت المادة (17) من القانون رقم (117) لسنة (1958) أنه من حق الموظف أن يطلب من السلطة التأديبية سماع شهادة شهود لها علاقة بالدفاع عن نفسه أمام هذه السلطات حيث جاء فيها (للمحكمة سماع الشهود من الموظفين وغيرهم ويكون أداء الشهادة أمام المحكمة بعد حلف اليمين).
اداء الشهادة
وقد وضعت تعليمات النيابة الإدارية ضوابط للاستماع لشهادات الشهود باعتبار الشهادة وسيلة مهمة من وسائل الإثبات في الدعاوى التأديبية في المواد (79-96) منها أهلية الشاهد لأداء الشهادة كونه يتمتع بالإدراك والتمييز وحلف اليمين قبل أداء الشهادة إلا إذا كان الشاهد دون سن (14) سنة فإنه يؤدي شهادته دون حلف اليمين، ويترتب على عدم أداء اليمين بطلان الشهادة وتتحول الشهادة إلى مجرد أقوال وإيضاحات كأقوال الشاهد الذي لم يبلغ سن (14) سنة الذي لا يجوز تحليفه اليمين في حين ذهبت المحكمة الإدارية العليا في حكم لها صدر عام 1988 إلى أن (….. ومن ثم فإن عدم مطالبة المحقق لبعض الشهود في التحقيق الذي بني عليه قرار مجلس التأديب.
المطعون فيه بأداء اليمين قبل إبداء أقوالهم لا يشوب وحده هذا التحقيق بالبطلان ولا يؤثر في سلامته ما دام أنه لم يثبت أن ذلك قد أخل بحق الطاعن في الدفاع وقد أتيحت له الفرصة لإبدائه كما يراه فيما يتعلق بصحة وسلامة هؤلاء الشهود).
ونرى أن عدم تحليف الشاهد لليمين القانونية يرتب البطلان في شهادته وذلك لأن النيابة الإدارية في مصر تتبع قانون الإجراءات الجنائية فيما يتعلق بقواعد الاستماع إلى شهادات الشهود أمام النيابة الإدارية في كل ما لم يرد به نص في هذه التعليمات ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص لذا فالبطلان جزاء تخلف اليمين في الشهادة وهذا هو اتجاه محكمة النقض في مصر وكذلك هو اتجاه مجلس الدولة الفرنسي الذي رتب بطلان الإجراء التأديبي عند إغفال استدعاء الشهود الذين طَلبَ سماع أقوالهم الموظف المتهم.
كما لا يجوز سماع شهادة الشاهد ضد نفسه مع ضرورة تنبيه الشاهد إلى مركزه القانوني أمام المحقق باعتباره شاهداً وليسَ متهماً ليتسنى له الإدلاء بشهادته، أما توجيه الإتهام الضمني واستجواب الشاهد أو أتخاذ إجراءات تشير إلى مثل هذا الإتهام كتفتيشه وتفتيش منزله أو مكتبه فإن ذلك غير جائز إذ أن الشاهد لو عرف بأنه في موضع الإتهام لا في موضع الشهادة كان له الحق في الامتناع عن أداء اليمين أو الصمت وعدم الإجابة على أسئلة المحقق.
كما ألزمت تعليمات النيابة الإدارية ترك الحرية للشاهد في الإدلاء بشهادة لأن الشاهد يُسمع ولا يستجوب وعدم استعمال أساليب الحيلة والتخويف أو التهديد وغيرها من الضوابط والإجراءات والقواعد التي نصت عليها التعليمات المذكورة لا مجال لذكرها.
ومع ذلك فإن لسلطة التحقيق صلاحية تقديرية في الاستجابة لطلبات الموظف في استدعاء كافة الشهود الذين يطلبهم للشهادة بحيث يمكن الاكتفاء بالعدد المعقول من الشهود الذي يرى أن هناك فائدة من سماعهم وبذلك قضت المحكمة الإدارية العليا (ليس مطلوباً لصحة التحقيق أن يستمع المحقق في كل الأحوال إلى أكثر من أقوال الشاكي والمشكو في حقه متى استظهر من وضوح الرؤية وجلاء الصورة وبروز وجه الحق عدم الحاجة إلى سماع الشهود شريطة أن يكون لهذا الاستخلاص ما يبرره).
وأيضاً نصت المادة (81) من القانون رقم (47) لسنة (1978) السابق بشأن العاملين المدنيين بالدولة على حق الموظف الخاضع للتحقيق الإداري طلب الاستماع إلى شهود حيث جاء فيها (للمحقق من تلقاء نفسه أو بناءً على طلب من يجري معه التحقيق الاستماع إلى الشهود…)، في حين لم يتضمن قانون الخدمة المدنية رقم (81) لسنة 2016 نصاً صريحاً مثل النص السابق ، وانما اكتفى بالاشارة في المادة (59) منه على انه لا يجوز توقيع أي جزاء على الموظف إلا بعد التحقيق معه كتابةً، وسماع أقواله وتحقيق دفاعه، ويكون القرار الصادر بتوقيع الجزاء مسببًا، ويفترض ان تحقيق الدفاع يقتضي الاستماع لشهود الاثبات و النفي من قبل سلطة التحقيق الاداري.
إن حق الاستماع لشهود الدفاع أكدته قوانين التوظيف الفرنسية وأقرها القانون رقم (634) لسنة (1983) وأيضاً نصت عليه المادة (57) من نظام الخدمة المدنية الكويتي حيث جاء فيها (للمحقق سماع الشهود من الموظفين وغيرهم ويكون أداء الشهادة بعد حلف اليمين) وأيضاً نصت على هذا الحق المادة (20) من نظام تأديب الموظفين في السعودية الصادرة بموجب المرسوم الملكي (م/7) لسنة (1391هـ) وأيضاً نصت المادة (142/أ) من نظام الخدمة المدنية الأردني رقم (1) لسنة (1988) التي ألزمت المجلس التأديبي بمنح الفرصة للمتهم لتقديم بياناته الشخصية والخطية سواء قد قدمت أثناء التحقيق في المخالفة أو لم تقدم من قبل على الإطلاق وأن يستدعي الشهود الذين يطلبهم لسماع أقوالهم ولا تسمع أي شهادة إلاّ بعد أداء القسم القانوني.
أما في العراق فإن المادة (10/ثانياً) من قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة (1991) المعدل نصت على أن (تتولى اللجنة التحقيق تحريرياً مع الموظف المخالف المحال عليها ولها في سبيل أداء مهمتها سماع وتدوين أقوال الموظف والشهود والاطلاع على جميع المستندات والبيانات التي ترى ضرورة الاطلاع عليها وتحرير محضراً تثبت فيه ما اتخذته من إجراءات وما سمعته من أقوال مع توصياتها المسببة أما بعدم مساءلة الموظف وغلق التحقيق أو بفرض إحدى العقوبات المنصوص عليها في هذا القانون).
وطبقاً لمنطوق النص المتقدم فإن المشرع العراقي نص على استماع اللجنة التي تتولى التحقيق لأقوال الموظف والشهود وقد وردت مفردة الشهود مطلقة دون تقييد حيث تتمتع سلطة التحقيق بصلاحيات تقديرية واسعة للاستماع لشهود الإثبات أو لشهود النفي (الدفاع) إلاّ أن المادة لم تتضمن قواعد تفصيلية بشأن أداء الشهادة وما هي الإجراءات الواجبة الاتباع في ذلك، وبذلك يكون المشرع العراقي قد أحال الإجراءات الخاصة بالاستماع لشهادات الشهود إلى القواعد العامة الواردة في القوانين الإجرائية التي تتضمن قواعد الاستماع لشهادات الشهود، إلا أن العرف الإداري استقر على كتابة إفادات الشهود وتحليفهم اليمين القانونية قبل تدوين شهاداتهم هذا على مستوى التحقيق الإداري.
أما على مستوى الجلسات التي تعقدها محكمة قضاء الموظفين للنظر في الطعون الخاصة بقرارات فرض العقوبات الانضباطية بحق الموظفين فإن قانون انضباط موظفي الدولة والقطاع العام رقم (14) لسنة 1991 المعدل قد نص في المادة (15/خامساً) منه على تطبيق أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية وبما يتلائم وأحكام هذا القانون.
ومن المعروف أن قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة (1971) المعدل قد عالج في المواد (58-68) وفي المواد (167-178) احكام الشهادة، على أن تقوم محكمة قضاء الموظفين بأخذ القواعد التي تتلائم وطبيعة أحكام هذا القانون، ونحن نجد أن قانون أصول المحاكمات الجزائية قد تضمن أحكاماً تفصيلية للاستماع لشهادات الشهود إلاّ أن البعض منها غير ملائم لتطبيقه على المنازعات الانضباطية فمثلاً لقاضي التحقيق أن يصدر أمراً بالقبض على الشاهد المتخلف عن حضور التحقيق وإحضاره جبراً لأداء الشهادة وهذا ما ورد في المادة (59/ ج) منه وهذا النص من المتعذر تطبيقه من قبل اللجنة التحقيقية او محكمة قضاء الموظفين.
كذلك ما ورد في المادة (174) منه التي أجازت للمحكمة في حالة امتناع الشاهد من الحضور أمام المحكمة رغم تكليفه بالحضور إصدار أمر القبض عليه وتوقيفه وإحضاره أمامها لأداء الشهادة ولها أن تحكم عليه بالعقوبة المقررة قانوناً بسبب تخلفه عن الحضور وهذا النص أيضاً من المتعذر تطبيقه من قبل محكمة قضاء الموظفين، فقانون انضباط موظفي الدولة العراقي فضلاً عن كونه لم يتضمن قواعد تفصيلية في كيفية استدعاء الشهود والاستماع لأقوالهم فإنه لم يتضمن آلية لضبط وإحضار الشاهد أمام سلطة التحقيق أو المحكمة وهذا خلل تشريعي كان على المشرع تلافيه في تعديله الأخير لقانون انضباط موظفي الدولة رقم (5) لسنة (2008) ? لذا ندعو مجلس الدولة لانضاج مشروع قانون اجرائي شامل للمنازعات الادارية شاملاً كل التفاصيل المتعلقة بالحضور وضبط الشهادات وتخلف الشاهد عن الحضور وغير ذلك من التفاصيل التي اثرناها سابقاً… والله الموفق.
اضف تعليق